إقباليات (العدد العربي الخامس) 2004 فصلية فكرية تبحث في دراسات إقبال والدين والثقافة والتاريخ والآداب تصدر عن أكادمية إقبال باكستان إشراف الأستاذ محمد سهيل عمر رئاسة التحرير الأستاذ الدكتور ظهور أحمد أظهر الأستاذ الدكتور خورشيد رضوي المحرر المساعد محمد سميع مفتي أكادمية إقبال باكستان لاهور مجلة إقباليات أكادمية إقبال باكستان تصدر مجلة البحوث العلمية هذه باللغة العربية سنويا عن أكادمية إقبال باكستان وهي مختصة للمقالات التي تتعلق بأفكار إقبال. كما تطبع فيها مقالات تتعلق بالحضارة الإسلامية والعلوم الدينية والفلسفة والتاريخ والأدب والشعر بقلم الماهرين والمتخصصين وندعو كل أحد يريد أن يكتب في الموضوعات المذكورة لمجلتنا هذه. العنوان البريدي Iqbal Academy Pakistan 6th Floor, Aiwan i Iqbal off Egerton Road, Lahore, Pakistan Tel: 92-42-6314510 Fax: 92-42-6314496 email: iqbalacd@lhr.comsats.net.pk Website: www.allamaiqbal.com ثمن النسخۃ: 80 روبیۃ - 4 دولار أمریکیۃ وظیفۃ للبیع: 116 - خیابان میکلود، لاہور، باکستان تلفون: 7357214 مجلة إقباليات العربية — العدد 5—2004 المحتويات • طه حسين إقبال شاعر فرض نفسه • عبد الوهاب عزام محمد إقبال سيرته وشعره • فتحي رضوان إقبال الفيلسوف • محمد سعيد جمال الدين النبي (ص) في شعر محمد إقبال • عثمان أمين رسالة محمد إقبال • نجيب كيلاني إقبال الشاعر الثائر • أبراهيم دار إقبال والشعراء العرب • عبد الإله بنعرفة الشعر بين الحكمة والفن • خورشيد رضوي إقبال والعربية والعالم العربي • حازم محفوظ إقبال في فلسطين • موسميات مراكشية الحكمة والفنون الإسلامية العريقة • حسين نصر الدلالة الروحية • محمد سهيل عمر إبراهيم عز الدين • مصنف أخبار إقباليات إقبال شاعر فرض نفسه على الدنيا وعلى الزمان للدكتور طه حسين شاعران إسلاميان رفعا مجد الآداب الإسلامية إلى الذروة، وفرضا هذا المجد الأدبي الإسلامي على الزمان. أحدهما إقبال شاعر الهند وباكستان وثانيهما أبو العلاء شاعر العرب. شاعران يتقاربان كأشد ما يكون التقارب، ثم يتباعدان كأعظم ما يكون التباعد. كلاهما شاعر أولا، وكلاهما فيلسوف، وكلاهما أخضع الفلسفة للشعر، وأخضع الشعر للفلسفة، وما أصعب التوفيق بين هذين الفنين الخطيرين. وكلاهما تصوف حتى بلغ الغاية من التصوف، وكلاهما —بعد ذلك— خرج على التصوف التقليدي المعروف، واتخذ لنفسه سبيلا خاصا في التصوف لا يكاد يشاركه فيه أحد غيره. وكلاهما أثبت شخصية كأقوى ما يكون إثبات الشخصية، ودعا الإنسان إلى أن يعرف نفسه حق معرفتها، وإلى أن يفرض نفسه على الدنيا، ويفرضها على الزمان، ولا ينفيها في أحد غيره مهما يكن. ولكنهما بعد ذلك يختلفان ويفترقان أشد الافتراق، أحدهما —وهو أبو العلاء— كان في أيامه ينظر إلى الهند ويطيل النظر إليها، والأخذ عنها والتأثر بها، حتى التزم في حياته حياة المتنسكين من البراهمة. والآخر —وهو إقبال— كان ينظر إلى العرب ويشيد بهم، ويثني عليهم، ويتخذهم المثل الأعلى للإنسانية الجديرة بالوجود والحياة والبقاء. كلاهما آمن بشخصيته، ودعا الناس إلى أن يؤمنوا بأنفسهم. ولكن أحدهما —وهو أبو العلاء— آمن بشخصيته إيمانا انتهى به إلى اليأس والسلب، وانتهى به إلى اعتزال الناس، وإن أحبهم كما لم يحبهم أحد قبله. والآخر آمن بنفسه والتمس مثله عند العرب ولم يلتمسه قريبا منه في الهند. ثم لم يعتزل وإنما كره العزلة، ولم يرفض الحياة وطيباتها، وإنما أخذ منها بحظ معقول، ولم يلغ غرائزه كما فعل أبو العلاء وإنما دبر وسيطر عليها وحكم عقله فيها. وكذلك يتفق هذان الرجلان العظيمان أعظم الاتفاق وأقواه. ثم يختلفان أبعد الاختلاف وأنهاه. كان أبو العلاء لا يزدرى الناس كما ازدراهم إلا لفكرة واحدة. كان يزدريهم أشد الازدراء لأنهم يفنون أنفسهم في السادة، ويفنون أنفسهم في الرؤساء، ويستعبدون أنفسهم للملوك والأمراء وكان حريصا أشد الحرص على أن يشعر الناس بأنهم يجب أن يكونوا أكرم على أنفسهم من هذا، ويجب أن يتوحدوا كما توحد ربهم: توحد فإن الله ربك واحـد ولا ترغبن في عشرة الرؤساء كان أبو العلاء إذن يريد أن يشعر الناس بأنفسهم، ويعرفوا حقهم، ويفرضوا شخصيتهم على الدنيا، وأن يرفعوا أنفسهم عن الخضوع والفناء، وكان يعيب الأمراء ويعيب الملوك ويراهم ظلمة مجرمين. مــل المقام فكم أعاشر أمـة أمرت بغير صلاحها أمراؤهـا ظلموا الرعية واستجازوا كيدها وعدوا مصالحها وهم أجراؤها ولكن هذا كله لم يهون على أبي العلاء أن يحيا مع الناس كما كانوا يحيون. رأى أن الحياة الاجتماعية في عصره لا تستقيم له إلا إذا أنكر نفسه وأصبح خادما كغيره من هؤلاء الخدم الكثيرين الذين كانوا يسودون ويذلون في الوقت نفسه للملوك والرؤساء، فنفي نفسه من الأرض ولزم داره وأقام فيها لا يخرج منها خمسين عاما أو نحو خمسين عاما. أما إقبال فإنه آمن بشخصيته أشد الإيمان كما آمن بها أبو العلاء، ولكنه لم يكتف بأن يؤمن بنفسه، ثم يكتفي بهذا الإيمان قانعا بنفسه زاهدا في إحياء هذه الشخصية في الناس جميعا، وإنما كان إيجابيا. كان حريصا أشد الحرص على أن يؤمن بنفسه، وأن يحمل الناس على أن يؤمنوا به. أن يؤمن بشخصيته ويحمل الناس لا في باكستان والهند وحدهما، ولا في العالم الإسلامي وحده، بل في العالم الإنساني كله. كان حريصا على أن تكون حياة الإنسان قائمة على إيمان الفرد بنفسه، وعلى أن يفرض الفرد نفسه على الحياة، لا أن يخضع لها، ويفنى في هذا المظهر أو ذاك من مظاهرها. وكان في الوقت نفسه منطقيا مع هذا الرأي الفلسفي الخطير. كان اجتماعيا كأشد ما يكون الإنسان إخلاصا للجماعة، أن أفنى حياته كلها مرشدا معلما ناصحا داعيا للعالم الإسلامي وللإنسان إلى أن يكرم على نفسه وليكرم على الناس وليكرم على الحياة، ولكنه في الوقت نفسه كان يرى أن هذه الحياة التي يخلص الإنسان فيها للإنسان، وينصح الإنسان فيها للإنسان، ويعين الإنسان فيها الإنسان، لا تستقيم ولا تصلح ولا تؤتي ثمرتها إلا إذا انفصل الإنسان عن الإنسان، وآمن بأن له وجوده الفردي الخاص، وبأن هذا الخير الذي يذيعه في الناس والذي يريد أن يملأ به الأرض يجب أن يصدر عنه هو من حيث أنه فرد مستقل، كائن خاص ممتاز عن غيره، يريد الخير ويصدره عن نفسه مريدا عامدا لا كما يصدر الضوء عن السراج دون أن تكون للسراج فيه إرادة، بل كما يصدر الضوء والنور عن الله، لأن الله يريد أن يملأ الأرض وأن يملأ العالم ضوءا ونورا. والذي كان يريده إقبال للفرد كان يريد مثله للجماعات حين يتاح لها أن تأتلف، وأن توحد بينها هذه المقومات التي تكون منها أمة مشتركة المنافع، مشتركة الآمال والغايات والآلام والحاجات. وهو من أجلها لم يدع إلى شيء كما دعا إلى أن يكون المسلمون في هذه القارة التي نسميها قارة الهند، لم يكن يدعو إلى شيء كما كان يدعو إلى أن يمتاز المسلمون ما دامت بينهم هذه الخصائص التي تجمع، ولهم هذه الآمال وهذه الآلام وهذه الغايات العليا التي يشتركون فيها جميعا، وتخالط قلوبهم وضمائرهم جميعا. فيجب أن يمتازوا وأن يكون لهم وجودهم السياسي والاجتماعي الخاص، وأن يصدروا فيما يكون بينهم وبين غيرهم من أهل الهند، وفيما يكون بينهم وبين غيرهم من الناس جميعا، عن إرادة للخير وإرادة للنصح وإرادة للتعاون والتضامن في ترقية الحضارة ونفع الإنسان والخروج به من هذه الحياة الشريرة المظلمة التي يحياها إلى حياة أخرى خير منها. كان إذن حريصا على أن يتوحد الفرد في وجوده وعلى أن تتوحد الأمة في وجودها، وعلى أن يكون هذا التوحيد وسيلة إلى التضامن الذي يصدر عن الإرادة ولا يصدر عن الغريزة، يصدر عن القلب وعن العقل وعن التفكير، بحيث يكون الإنسان —كما قال أرسططاليس— حيوانا اجتماعيا ولكن حيوانا اجتماعيا في إرادته، وعن رأيه وعقله، لا بغريزته كما تكون النحل أو كما تكون النمل. فالإنسان هو خير ما في هذه الأرض من الكائنات التي أتيحت لها الحياة، فيجب أن يمتاز في الأرض ويجب أن يمتاز أفراده، وأن تمتاز أممه، وأن يتحقق بين الناس هذا الامتياز الذي يتيح لكل فرد منها استقلاله، وهذا التضامن الذي يتيح لهم جميعا أن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن لا يتعاونوا على الإثم والعدوان. ومن أجل هذا، ومن أجل حرص إقبال على هذه الشخصية، وعلى أن يحرص الإنسان أشد الحرص على أن يتوحد كما توحد الله، وعلى أن يمتاز كما امتاز الله، وعلى أن يسود الأرض التي سخرها الله له، ويخضع الطبيعة التي سخرها الله له، من أجل هذا كله ظن بعض الأوربيين الذين قرأوا فلسفة إقبال وشعره عندما ترجمه نيكلسون إلى الإنجليزية، ظنوا أنه متأثر بنتشه، ومتأثر بنتشيه في مذهبه في الإنسان الممتاز أو "السوبرمان"، ولكن إقبال نفسه رد على هؤلاء الناس فقال إنه عندما جهر بمذاهبه هذه لم يكن يعرف نتشه، ولم يكن يعرف أن في الأرض إنسانا يسمى بهذا الاسم، وأنه إنما عرف الغرب وفلاسفة الغرب بآخره بعد أن أنشأ فلسفته وآدابه وبعد أن تقدم بهذه الفلسفة و بهذا الأدب شوطا بعيدا. ومهما يكن من شيء فهذان الشاعران العظيمان لم يعرف الإسلام مثلهما قبل أبى العلاء، ونرجو أن يعرف الإسلام مثلهما بعد إقبال. ولكن الشيء الذي ليس فيه شك هو أن الإسلام لم يعرف مثل هذين الشاعرين لا قبل أبى العلاء ولا بين أبى العلاء وبين إقبال. احتاج المسلمون إلى نحو عشرة قرون ليوجد بينهم ثان لأبى العلاء، ولكن إقبال كان أحسن حظا من صاحبه. فهو قد عاش في عصر غير العصر الذي عاش فيه صاحبه. عاش أبو العلاء في عصر كان المسلمون قد أخذوا يضعفون وينحطون فيه، وأخذ العنصر الأعجمي والعنصر التركي بنوع خاص يتسلط فيه على المسلمين. وأخذت أوروبا تتحفز لغزو الشرق في غزواتها الصليبية المعروفة، فكان ساخطا على الحياة مهيبا بالمسلمين أن يغيروا من أمر أنفسهم ليغير الله من أمرهم. وعاش إقبال في عصر آخر، عصر كان المسلمون فيه، كما نراهم الآن، متفرقين ومن حقهم أن يأتلفوا، ضعافا ومن حقهم أن يقووا، وفي الوقت نفسه فيهم استعداد وتحفز للنهضة والقوة والحياة والتضامن، ولكن لهم أعداء خطيرين يدبرون لهم الكيد ويضمرون لهم المكروه، وهم هؤلاء المستعمرون في الغرب. فالعصران يتشابهان من جهة ويختلفان أشد الاختلاف من جهة أخرى. فلم يعرف أبو العلاء هذا العلم الكثير الذي أتيح لإقبال أن يعرفه. ولم يعرف هذه الفلسفة الكثيرة التي أتيح لإقبال أن يعرفها. ولم يعرف هذه الحضارة المادية الهائلة التي استطاع إقبال أن يعرفها، وأن يقبل منها أقلها ويرفض أكثرها. ودعوة الرجلين واحدة. كلاهما يدعو العالم الإسلامي أولا والإنسان ثانيا إلى أن يعرف نفسه وحقه ويفرضهما فرضا، ولا يفنى في أحد مهما يكن، ولا يفنى حتى في الله نفسه. وأشد ما ينكره إقبال، وأشد ما ينكره أبو العلاء على المتصوفة فكرة الفناء هذه فأبو العلاء ناقش المتصوفة أشد المناقشة. ولم يكره من مذهبهم شيئا كما كره منهم هذا الفناء في الذات الإلهية الذي يقولون به. كما كره منهم العبث بعقول الناس. وإقبال متصوف متقشف مدرك للفلسفة العليا وللمثل العليا في أروع صورها وأجملها. ولكنه لا يريد مطلقا أن يفنى في هذا النور الإلهي الخطير العظيم، بل فإنما يجب أن يحتفظ بشخصيته وأن ينظر إلى هذا النور ويطالعه ويخاطب ربه خطاب العالم به المريد أن يخاطبه وأن يسمع منه، لا لأن يفنى فيه وينكر وجوده وينكر نفسه ويصبح ضائعا في هذه القوة الإلهية العليا. لا يريد إقبال أن يضيع ولا يريد لأحد من الناس أن يضيع ولا يريد للإنسان أن يفنى في الإنسان، ولا أن يفنى في الله. إنما يريد للإنسان أن يعين الإنسان، وأن يتضامن معه على الخير، وأن يعبد الله عالما به مكبرا له، ولكن معترفا بنفسه ومؤمنا بها. ذلك لأن الله عندما أمر الناس بعبادته لم يأمرهم بأن يفنوا أنفسهم فيه، وإنما أمرهم بأن يعيشوا أحرارا مؤمنين بشخصيتهم مستقلين. ولولا هذا لما كلفهم هذه التكاليف التي فرضها عليهم. فإن الله لم يكن ليكلف نفسا أن يصلي ويصوم ويؤدى الزكاة ويحج إلى آخر هذه التكاليف التي فرضها على الإنسان. فنفس هذه التكاليف التي فرضت على الإنسان إنما فرضت عليه ليكون فردا مستقلا، مستقلا ثابتا أمام ربه، يعبده عن إرادة لهذه العبادة، ويذعن له عن إرادة لهذا الإذعان. والغريب أن الرجلين اشتركا أيضا في هذا التفكير المتصل بالملأ الأعلى. وكلاهما فكر في هذه المعجزة التي جاءت في القرآن، وهى معجزة الإسراء. فكر في هذا كلاهما، وحاول كلاهما أن يسري كما أسري بالنبي. فأبو العلاء فكر في الجنة وفكر في النار وحرص على أن يسيح في الجنة والنار، وان يكون متفرجا، وأن يتحدث إلى الناس عن الجنة والنار، وعما يكون في الجنة والنار، فألف "رسالة الغفران". وصاحبنا الذي نذكره اليوم مكبرين له مجلين له أبي هو أيضا إلا أن يعرج في السماء كما عرج محمد —صلى الله عليه وسلم. ولكن كلا الرجلين عرجا إلى السماء في خيالهما. وإقبال يزور السماوات ويتخذ له من هذه الزيارة دليلا من المتصوفة هو جلال الدين الرومي، فيزور القمر ويزور المريخ ويزور كواكب كثيرة، صاحبه هذا يدله كما كان "دانتي" في القرون الوسطى يطوف بالجنة والنار والأعراف ومعه الشاعر اللاتيني القديم "فرجيل" يهديه في هذا الطواف. كذلك فعل إقبال. وأكبر الظن أنه لم يعرف "دانتى" إلا في العصر الأخير من حياته. مهما يكن من شيء فقد طوف إقبال في السماوات كما طوف فيها أبو العلاء. ولكن النتيجة لهاتين الزيارتين متناقضة عند الرجلين أعظم التناقض. فأما أبو العلاء فعاد من زيارته للجنان والنار ساخرا منكرا يوشك أن يخرج على الدين. وأما إقبال فعاد من زيارته مؤمنا متعظا معتبرا يريد أن يملأ الدنيا موعظة وعبرة بعد هذه الزيارة إلى هذه السماوات. أفنى الأستاذ الصديق عبد الوهاب عزام وقتا كبيرا وبذل جهدا عظيما وقدم إلينا حياة إقبال وطائفة من شعر إقبال. وهو ماض في ترجمة ما بقى من شعره. فنحن مدينون له بكل ما نعرفه عن إقبال باللغة العربية، وسيزداد هذا الدين شيئا فشيئا كلما أضاف إلى تراجمه التي بين أيدينا ترجمة أخرى. ويجب أن نكون أوفياء وأن نكون كراما على أنفسنا. وأول حقوق الكرامة هو أن نعرف الحق لأهله، وأن نذكر إقبال أداء لما له علينا جميعا من دين. فهو الذي دعانا إلى الخير وأشاع فينا هذا الأمر بأن نعرف أنفسنا وحقوقنا ونجاهد في سبيل الحق والخير والجمال. و إذا ذكرنا إقبال وأكبرناه وتمنينا أن تنفع كلماته هذه الخالدة، وأن يصبح المسلمون جميعا متأثرين بهذه المذاهب العليا، إذا ذكرنا اليوم إقبال وأكبرناه فأظن من أيسر الحق علينا أن نذكر ونشكر الأستاذ عبد الوهاب عزام، فهو الذي كان صلة بيننا وبين إقبال. محمد إقبال سيرته وفلسفته وشعره للأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام —1— محمد إقبال شاعر نابغة، وفيلسوف مبدع، احتفل في باكستان وغيرها في نيسان الماضي بالذكرى الرابعة عشرة لوفاته. وذكره يشيع، وصيته يذيع علي مرِّ الأيام، —ولا سيَّما منذ نشأة دولة باكستان— وهي حقيقة تخيّلها والناس منه يضحكون، ويقظة حلَم بها واليائسون به يتفكهون. احتفى الناس بذكراه كل عام، وكثرت المجامع في كل ذكرى تشيد بدعوته، وتدعو إلى رسالته. وشرع أدباء الأمم يعنَون بترجمة شعره إلى لغاتهم. وقد سئلت أن أكتب في سيرته وفلسفته وشعره كتابا مجملا، أجعله مقدمة لتفهّم دواوينه التي ترجمتها إلى اللغة العربية، فأجبت على العلات، وعلى كثرة الشواغل. وأنا لا أدعى إلى إقبال إلا لبيت، استجابة لما في نفسي من عشق، وإكبارا لهذا الشاعر الفيلسوف المؤمن. وهذه مقدمة أقدمها تعريفا به. أقدم فيها ما يقرب إلى القارئ صورته ويُجمِل له دعوته، ليتهيأ لقراءة هذا الكتاب طلبا للتفصيل ورغبة في المزيد، وشوقا إلى شعر بدع وفلسفة أنف، وإعجابا بالفكر المحلِّق، والمفكر الحر، والفيلسوف الذي لا يسير مع الزمان، ولا يخضع لتقلب الحدثان، والشاعر الذي ينفخ الحياة في الموات، ويبعث في القفر ألوان النبات، ويُشعِل الجمر الخامد في الرماد الهامد. أبين في هذه الكلمات كيف سمعت بإقبال اسما مبهما وقولا معجما، وكيف زادت معرفتي به على مر الزمان حتى وقعت في بحره وسبحت في لجِّه، ثم أويت إلى الساحل أنظر العباب الزاخر، والآذى الثائر، وأصف ما رأى لمن لم يعرفه معرفتي، ولم يولع به ولوعى. —2— سمعت وأنا في بلاد الإنكليز قبل وفاة الشاعر بأكثر من عشر سنين، أن في الهند صوفيا اسمه إقبال له نظرات في التصوف، وله فلسفة في النفس، وأن ذكره جاء في بعض المجلات الأوربية، وكلامه نُشر فيها. وأنا نزاع إلى الصوفية منذ نشأة وزادني معرفة بها ورغبة فيها وحبا في المزيد منها، أن تعلمت اللغة الفارسية وقرأت الشعر الفارسي، وأعلام شعراء الفرس وأشدهم استيلاء على النفوس واستحواذا على القلوب هم الصوفية منهم، وقد أثروا تأثيرهم في الشعر الفارسي حتى لا يخلو شاعر فارسي من نفحة صوفية. لبثت متشوفا إلى إقبال، أخباره وشعره وفلسفته، على قلًّة ما سمعت عنه، وعلى غموضه وعلى كثرة شواغلي. —3— وما أحسب علمي به زاد على هذه النتف من الأخبار حتى صحبت الصديق الشاعر محمد عاكف، —رحمه الله— وكان صديقي ورفيقي وأنيسي في حلوان دار إقامتنا، وفي جامعة القاهرة — فأراني يوما ديوان بيام مشرق (رسالة المشرق) أحد دواوين الشاعر إقبال. وما قرأت من قبل ولا سمعت من شعر إقبال كثيرا ولا قليلا. قال محمد عاكف: إن صديقا —وأحسبه سفير تركيا في أفغانستان يومئذ— أرسله إلي. فأقبلنا على الديوان نقرأ معاً فنعجب بالفكر والشعر، وننتقل في روضة أنف تلقى العين والنفس ببهجتها من النوار والزهر، مختلف الألوان والأشكال، مؤتلف الرونق والجمال. عرفت إقبالا في كلامه يومئذ، ولكنها معرفة من قرأ قليلا من كلامه، غير خبير بعباراته، ولا عارف بإشاراته، ولا مدرك فلسفته ومذاهبه ودعوته ومقاصده. ولا تزال نسخة بيام مشرق التي أعارني إياها الصديق محمد عاكف عندي، عليها علاماته في مواضع الإعجاب، أو مواضع السجود من الشعر كما قال الفرزدق وهي عندي ذكرى اللقاء الأول لقاء إقبال في ديوان رسالة المشرق، وذكرى شاعر الإسلام محمد عاكف. ثم أهدى إلى أحد مسلمي الهند، وقد عرف حبي إقبالا وحرصي على الاستزادة من كلامه، المنظومتين: أسرار خودي ورموز بي خودي. فرأيت فيهما أسلوبا بدعا من الفلسفة التي سمَّاها فلسفة خودي (الذاتية) وطريقة عجبا في الشعر، ومذهبا معجبا في التأليف بين مذهبه وبين الإسلام، عقائده وفلسفته وحضارته وتاريخه. وما زال أصحابي في بلاد العرب والعجم يتحفونني بما تناله أيديهم من دواوين إقبال، فأزداد معرفة به وإعجابا وحبا وغراما. وشرعت أنشر ترجمة منثورة لشعره في مجلة الرسالة ولا أدري كم واليت نشر قِطَع من شعر إقبال وعرّفت به. وقد دعيت قبل وفاة الشاعر ببضع سنين وأنا في مدينة الإسكندرية، إلى التحدث عنه. وكان الأدباء في بلاد العرب عرفوه بي، وعرفوني به فتحدثت بما راع السامعين من فلسفة الشاعر وشعره. وشرعت سنة 1936م أنظم منظومة سميتها اللمعات وأهديتها إلى إقبال ونشرت مقدمتها في مجلة الرسالة . —4— وكان من سعادة الجد وغبطة العين والقلب، أن قدِم إقبال مصر في طريقه إلى المؤتمر الإسلامي الذي اجتمع في المسجد الأقصى سنة 1931م. ودعت جمعية الشبان المسلمين إلى الاحتفال بالرجل العظيم. واقترح أستاذنا الشيخ عبد الوهاب النجار —رحمه الله— أن أقدم محمد إقبال إلى الحضور. إذ كنت، على ضآلة معرفتي، أعرَفَ الحاضرين به. وكان هذا شرفا لي وسرورا، وفاتحة من عالم الغيب لصحبة طويلة، صحبة المريد للمرشد، والتلميذ للأستاذ، ومقدمة لجهد مديد في الكتابة عن الشاعر والحديث عنه، وترجمة دواوينه إلى العربية. تحدثت ما وسعت معرفتي، وأنشدت أبياتا من ديوان رسالة الشرق علقت بذهني. وهي فيما أتذكر: أي كه در مدرسه جوئي أدب و دانش وذوق نه خورد باده كس از كار كه شيشه كَـران خرد أفزود مرا درس حكيمان فرنــــك سينه أفروخت مرا صحبت صاحب نظــران بركش اين نغمه كه سرمايهء آب و كَل تست أي زخود رفته تهي شو زنواي دكَــــران وترجمتها: "يا من يطلب في المدرسة المعرفة والأدب والذوق! أن أحدا لا يشرب الخمر في مصنع الزجاج. قد زادت دروس حكماء الإفرنج عقلي، وأنارت صحبة أصحاب البصائر قلبي. أخرج النغمة التي في قرار فطرتك يا غافلا عن نفسك! أخلِها من نغمات غيرك." وكذلك أنشدت هذه الشطرات: أي كرمك شبتاب سراباى تو نور اسـت برواز تو يك سلسلهء غيب وحضور است آئين ظهور است وترجمتها: يا لك من يراعة تصورت من نور مسيرها سلسلة الغياب والحضور وسنّة الظهــور وقلت له حين انقض المجلس: لا تؤاخذني، ليس في وسعي أن أنشد شعرك خيرا مما أنشدت فقال: حسن ! أنشدت صحيحا. ووقف إقبال بعد أن عرفت الحاضرين به تعريفا موجزا فتكلم بالإنكليزية في أحوال المسلمين، وتطور الفكر الإسلامي. وأفاض ما شاء علمه وبيانه. ومما وعيته من هذا الكلام قوله عن الصوفية: إنهم علماء النفس بين المسلمين. وقد وكل إلى الأستاذ محمد الغمراوي أن يسجّل خلاصة خطاب إقبال ويقرأها على الحضور. فكتب وحاول أن يترجم ما كتب ارتجالا. ثم رأى أن يُترجِم على روية وينشر الترجمة في مجلة الشبان المسلمين. وقد حرصت على لقاء الشاعر من بعد، ولكن ضيق الوقت قبل سفره إلى القدس لشهود المؤتمر الإسلامي لم يُبلِغني ما حَرَصت عليه، إلا لقاء للوداع في محطة القاهرة. —5— ولبثت أكتب عن إقبال، وأترجم من شعره، ما وسع وقتي وعلى قدر فقهي وعلمي بسيرته حتى نُعِي إلينا في نيسان من سنة 1938م. فكان كما قال أبو تمام: أصم بك الناعي وإن كان أسمعا. وقد احتفلت جماعة الأخوة الإسلامية بتأبينه —وكنت يومئذ رئيس الجماعة— فكان لها حفلتان بقبَّة الغوري وجمعية الشبّان المسلمين. وتكلمت في الحفلين وأنشدت من منظومة اللمعات التي نظمتها وأهديتها إلى إقبال. وأنشدت قصيدة ترجمتها من ديوانه "بانك درا" وكان مما قلت في أحد خطابي في تأبين الشاعر العظيم: "في اليوم الحادي والعشرين من شهر نيسان (أبريل) سنة 1938م، والساعة خمس من الصباح، في مدينة لاهور، مات رجل كان على هذه الأرض عالما روحيا يحاول أن ينشئ الناس نشأة أخرى، ويسنّ لهم في الحياة سنة جديدة. وسكن فكر جوال جمع ما شاءت له سعته من معارف الشرق والغرب. ثم نقدها غير مستأثر لما يُؤثَر من مذاهب الفلاسفة، ولا مستكين لما يروَى من أقوال العظماء. ووقف قلب كبير كان يحاول أن يصوغ الأمة الإسلامية من كل ما وعى التاريخ من مآثر الأبطال وأعمال العظماء. وقرت نفس حُرَّة لا يحدّها زمان ولا مكان، ولا يأسِرها ماض ولا حاضر. فهي طليقة بين الأزل والأبد، خفاقة في ملكوت الله الذي لا يحدّ. مات محمد إقبال الفيلسوف الشاعر الذي وهب عقله وقلبه للمسلمين وللبشر أجمعين، الرجل الذي يخيل إلى وأنا في نشوة شعره أنه أعظم من أن يموت وأكبر من أن يناله حتى هذا الفناء الجثماني. فاضت روح الرجل الكبير المحبوب في داره بلاهور ورأسه في حجر خادمه القديم على بخش، وهو يقول: إني لا أرهب الموت، أنا مسلم، أستقبل المنية راضيا مسرورا. قرأت كلام إقبال في الحياة والموت، ورأيت استهانته بالِحمام واستهزاءه بالذين يرهبونه. ما كان هذا خُدعَة الخيال ولا زخرف الشعر. فقد صدق إقبال دعوته في نفسه حين لقي الموت باسما راضيا. جدّ المرض بإقبال وكان يقترب إلى الموت وهو متقد الفكر قوي القلب، يصوغ عقله كلمات يوقظ بها النفوس النائمة، وينثر قلبه شررا يشعل به القلوب الخامدة. وكان في شغل بنظم ديوانه الآخر "أرمغان حجاز" (هدية الحجاز) وكان قلب الشاعر يهفو إلى الحجاز. وكم تمنى أن يموت فيه. وقد ضمَّن هذه الأمنية دعاءه في خاتمة كتابه رموز بي خودي. ومما قال في أشهره الأخيرة: آية المؤمن أن يلقي الردى باسم الثغر سرورا ورضى وقد أنشد هذين البيتين —وهما مما أنشأ أخيرا— قبل الموت بعشر دقائق: سرود رفته باز آيد كه نايـد نسيمي أز حجاز آيد كه نايد سرآمد روز كَار أين فقيـري دكَر داناى راز آيد كه نايـد وترجمتها: نغمات مضين لي هل تعود أنسيم من الحجاز يعـود؟ آذنت عيشتي بوشك رحيل أ لعلم الأسرار قلب جديد؟ وقد زرت من بعد قبره وداره، ولقيت ولده جاويد وخادمه علي بخش وسيقرأ القارئ هذا في الفصول الآتية. —6— ولما سافرت إلى مدينة دهلي عام 1948م، عزمت على السفر إلى لاهور، على بعد الشقة وظهور الفتن والقلق في أرجاء الهند. وما كان مثلي —وقد قدم الهند— ليصبر عن زيارة ضريح إقبال وداره. فأعددت للسفر إلى لاهور، ونظمت أربعة أبيات، وسألت نقَّاشا في دهلي القديمة أن ينقشها على لوح من الرخام، وحملتها معي وسلَّمتها إلى القوام على ضريح إقبال لتوضع هناك. والأبيات: عربي يُهدي لروضك زهـرا ذا فخار بروضه واعتـــزاز كلمات تضمنت كل معنـى من ديار الإسلام في إيــجاز بلسان القرآن خُطت ففيهـا نفحات التنـزيل والإعـجاز فاقبلنَّـها، على ضآلة قـدري فهي في الحق "أرمغان الحجاز" "وأرمغان الحجاز" في البيت الأخير معناها هدية الحجاز. وهو اسم آخر منظومة مجموعة شعرية! نظمها إقبال. وقد نشرت بعد وفاته. وكان من عجائب الاتفاق أن بلغت لاهور قبل ذكرى وفاة إقبال بيومين. ولم أكن أعرف موعد هذه الذكرى. وكانت حفلة لي ولوفد من إيران رئيسه الصديق علي أصغر حكمت، عند ضريح إقبال. وكانت حجرة الضريح لم تكمل بناء. وقد ألقيت كلمة في هذا الاحتفال جاء فيها: إقبال! يا شاعر الإسلام! أنرت مقاصده، وجلوت فضائله وأضأت سراجه، وأوضحت منهاجه، ودعوت المسلمين إلى المجد الذي يكافئ دعوتهم، ويلائم سنتهم، ويناسب تاريخهم. إقبال! يا شاعر الشرق! أشدت بمآثره، وفخرت بروحانيته، وأخذت على الغرب المادية الصماء والغرور والكبرياء، ونقدت قادته، وزيفت سادته، دحضت باطلهم وأبطلت سحرهم، ووقفتهم للحساب العدل، وأبنت ما لهم وما عليهم وما أحسنوا وما أساءوا. إقبال! يا شاعر الحياة ! عرفت معناها وكشفت عن قُواها، وبصرت بمجراها ومنتهاها، وأوضحت منارها وصواها. إقبال: يا شاعر النفس! أثرت خفاياها، وأظهرت خباياها، وأبنت ما في "خودي" من كهرباء، فيها القوة والنار والضياء، ودعوت إلى إثارة معادنها، واستخراج دفائنها. وقلت: بركش أين نغمه كه سرمايه آب و كَل تست أي زخود رفته تهى شو زنواى ديكَــران إقبال: يا شاعر بيخودي! أوضحت كيف يكون الإيثار، وكيف ينظم الفرد في الجماعة. إقبال: يا شاعر الحرية! أشدت بذكرها، وأكبرت من قدرها، ودعوت إليها كاملة، وأردتها شاملة، وأبغضت العبودية في شتى مظاهرها، ومختلف صورها. إقبال! يا شاعر الجهاد والدأب ! والكدح والنصب، قلت: إن الحياة جهاد مستمر، وكفاح لا يستقر، وإن الحياة في الموج الهائل، والموت في سكون الساحل. إقبال! يا شاعر التجديد والتقدم! قلت: إن الحياة مجددة تكره التكرار، ومتقدمة تأبى التقهقر. ودعوت الإنسان أن يمضي قدما في الحياة مقدما، له كل حين فكرة، وفي كل ساعة نغمة. وبينت أن الإقدام والابتكار، هما فرق ما بين العبيد والأحرار. إقبال! يا شاعر الجمال! صورته في الأرض والسماء واليبس والماء، وفي الصحارى الجرداء، والحدائق الغنَّاء، وفي الصبح والمساء، والضياء والظلماء، وصورته في كل خُلُق كريم ومنهج قويم. إقبال! يا شاعر الجلال! جلوته في الخالق والخليقة، وفي الهمم العالية، والعزائم الماضية، والأماني الكبيرة والمقاصد الجليلة. إقبال! أيها الشاعر الملهم! بانت لك الأسرار، ورُفِعت عن الغيوب لك الأستار. فرأيت الباطن كالظاهر، وأدركت المستقبل كالحاضر. إقبال! يا شاعر الإسلام ويا شاعر الشرق ويا شاعر الحياة ويا شاعر الإنسانية ويا شاعر الحرية والجهاد والتقدم والإقدام ويا شاعر الجمال والجلال!. لقد حييتك على بعد الديار وشط المزار، وأشدت بذكرك وعرفت بقدرك وأهديت إليك اللمعات، جوابا لمنظومتيك "أسرار خودي ورموز بي خودي". وأنا اليوم أحييك على القرب. وسيَّان في عظمتك القريب والبعيد! إن هذا الضياء لا يقيس المسافات، ولا تبعد عليه الغايات! إن هذا الفكر الذي يطوي الآفاق، ويخترق السبع الطباق، لا تختلف عنده الأرجاء، فالداني والنائي لديه سواء. كان من مُناي أن أزورك في حياتك، ثم تمنيت أن أزور ضريحك بعد مماتك، وهأنذا أشرف بأن ألقي أمامك هذه الكلمات وأودع ضريحك هذه الزهرات: عربي يهدي لروضك زهرا ذا فخار بروضه واعتزاز لقد ضمنت لك آثارك الخلود في هذه الدنيا، وعند الله جزاؤك في الأخرى، جزاء المجاهدين المخلصين المحسنين! ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا. وإن الله لمع المحسنين﴾ *** ثم ذهبت أنا والصديق علي أصغر حكمت إلى دار إقبال التي سكنها آخر عمره ومات فيها، وهي دار صغيرة المبنى كبيرة المعنى، تأخذها العين في نظرة، ويسافر فيها الفكر إلى غير نهاية. وقابلنا هناك جاويد، وهو ابن الشاعر، ذكره في كثير من شعره، وأعرب عن أمله فيه، ورجائه في مخايله، وسمَّى باسمه المنظومة الرائعة "جاويد نامة" وجاويد معناه الخالد. ورأينا حجرة كان الشاعر الخالد يكتب فيها شعره ومقالاته، وفيها فاضت روحه، وهي حجرة يستطيع شاعر بليغ أن يفصلها أبياتا خالدات، وقصائد سائرات. لبثنا حينا في الدار ذات الذِكَر والعِبَر نحدث جاويد، وأهدى إلينا صورة والده. وإنها لذكرى عظيمة: صورة إقبال يهديها ابن إقبال في دار إقبال! —7— وكان علمي بإقبال يزداد على مر الزمان، فيزداد شغفي به، وإكباري إياه، وإيماني بمذهبه في هذه الحياة. فترجمت من شعره. وهممت بأن أترجم ديوانا من دواوينه، فلم يتسع وقتي، ولا تسنَّى مطلبي. ولما بعثت إلى باكستان سفيرا لمصر هاج نفسي القرب، ولقيت بين الحين والحين من يحدث عن إقبال ومن رآه. فزحزحت الشواغل عن ساعات من الوقت شُغِلت فيها بإقبال. فترجمت ديوانين من دواوينه. ترجمت رسالة المشرق وطبعتها في كراجي حين الذكرى الثالثة عشرة لوفاة الشاعر. ثم ترجمت ضرب الكليم ونشرته في القاهرة حين الذكرى الرابعة عشرة. وأترجم اليوم والله المستعان ديوانين: أسرار خودي ورموز بي خودي. وقد قاربت الفراغ منهما والحمد لله. وكم شاركت في الاحتفال بإقبال فقلت وسمعت. وكم جالست أحباء إقبال ومنهم من عاشره ووعى عنه عن كثب، وعرف معيشته في داره، ومجالسه بين أصحابه وسُمَّاره. ولا تزال مجالس أصدقاء إقبال تجتمع عندي كل أسبوع مرة أو مرتين فنقرأ شعره ونروي أخباره، ونستمع إلى حديث العارفين بفلسفته، المتوفرين على استكناه حقائقها واستجلاء أسرارها. وكثيرا ما سمعت من هؤلا الأصدقاء الذين سميتهم دراويش إقبال، أن هذه المجالس أحب شيء إليهم في هذه الدنيا، وأنها عندي لكذلك. هذه كلمة أردت أن أعرِّف بها القراء إقبال كما عرفته ليقبلوا على قراءة تاريخه وفلسفته وشعره في الفصول الآتية. إقبال الفيلسوف للأستاذ فتحي رضوان أسندت إليَّ رئاسة هذا الاجتماع وكان ذلك تكريما لي وإحراجا في الوقت نفسه. أما التكريم أو التشريف فمفهوم. أما الإحراج فأمره ظاهر، إذ يشترك في هذا الاجتماع اثنان ممن تشرفت بالتتلمذ عليهم، أستاذي السيد مدير الجامعة الدكتور كامل مرسي تلقيت عليه العلم مباشرة أربع سنوات متعاقبات، ثم واصلت الاتصال به عن طريق كتبه، وعن طريق أحكامه، يوم أن كان في محكمة النقض والإبرام. ثم تتلمذت مباشرة أيضا وبغير وساطة الكتب على أستاذنا الدكتور طه حسين. ولعل الجيل الجديد لا يعرف أن الدكتور طه حسين نجح في إقناع ذوي الرأي في ذلك الحين في أن يعلموا طلبة كلية الحقوق سنة في كلية الآداب ليحصلوا فيها الآداب العربية والآداب الأجنبية واللاتيني أيضا. وقد أحببنا هذه السنة حبا جما لأنها أتاحت لنا أن نرى عن كثب الدكتور طه حسين الذي كنا نسمع عنه كثيرا قبل أن نحضر من بلادنا في الريف إلى القاهرة، وأن نرى زملاءه الذين كانوا كرجال عاهدوا الله، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا، منهم المرحوم الأستاذ أحمد أمين والدكتور منصور فهمي وغيرهما وغيرهما من أعلام الفكر والرأي في ذلك الحين وفي كل حين بإذن الله. ولذلك فقد ترددت كثيرا في أن أقبل رئاسة هذا الاجتماع، لأني وجدت أنه من غير المنطقي أن أكون رئيسا له في الوقت الذي يحضر فيه هذان العلمان الكبيران ليتكلما. ولكنني أعلم أن الأستاذ الكبير كما يسره أن يخرج الكتاب النافع المفيد فينتشر ويروج، يسره أيضا أن يرى تلاميذه وأبناءه يتكلمون في حضوره، ويشهد محاولتهم في أن يقلدوه وأن ينقلوا إلى الناس صورة عنه في أشخاصهم. ولهذا السبب سمحت لنفسي أن أتكلم وأن أحضر كرئيس لهذا الاجتماع، راجيا من أستاذيَّ أن يغفرا لي ما قد أتورط فيه من خطأ كبير أو صغير. محمد إقبال، نحن نجتمع اليوم لنكرمه. وفي الواقع نحن إذ نكرمه إنما نكرم أنفسنا. فمحمد إقبال رمز لأحسن ما في الحياة الإنسانية. هو يمثل الشعر ويمثل الفلسفة ويمثل القانون أيضا. فقد كان أستاذا في الجامعات، وكان شاعرا له دواوين بلغت من العدد تسعا، وهو أيضا محام بالمحاكم يترافع في القضايا. والقانون والشعر والفلسفة إلى جانب الإيمان بالمثل العليا والمعاني الباقية في الحياة الإنسانية، هو أجمل وأكبر ما في هذه الحياة. فإذا ربطنا أنفسنا بهذه المعاني، وقلنا أننا نقدرها حق قدرها ونحبها ونتذوقها ونحب الذين أضافوا في ميدانها شيئا، فنحن نكرم في الواقع أنفسنا، ونضع أنفسنا في خير مكان يضع الإنسان فيه نفسه في هذه الدنيا. وقد عرفت محمد إقبال معرفة شخصية. عرفته في القاهرة في سنة 1932م وكان في طريقه إلى مؤتمر الدائرة المستديرة في لندن، وكنت إذ ذاك مشغولا بفكرة مؤتمر الطلبة الشرقيين التي سبقت في ميلادها ميلاد الجامعة العربية. وكنت إذ ذاك شيئا غريبا بين الطلاب، لأن في ذلك الحين كان الشباب، وشباب الجامعة بصفة خاصة، لا يفكرون في غير مصر. وكانت العقيدة السائدة أن مصر تستطيع أن تعيش وحدها، بل أن مصر يجب أن تعيش وحدها، لأنها لا تفيد شيئا من هذه البلاد التي تسمى الآن بالبلاد العربية، والتي كنا لا نعرف لها اسما عاما نطلقه عليها. واهتمامي بفكرة الطلبة الشرقيين هي التي سوغت لي وحسنت أن ألقى الدكتور محمد إقبال في محطة القاهرة وأن أركب معه في العربة (الحنطور) التي ركبها من محطة القاهرة إلى فندق "ناسيونال" ولعلكم تعرفون مدى حرجي حينما وجدته منصتا إلى متهيئا لأن يسمع. وبحثت إذ ذاك عن عبارات باللغة الإنجليزية أقولها فلم أجد شيئا. وقد أنقذني في ذلك الحين صحفي كان يقيم في القاهرة يعرف الإنجليزية ويعرف بعض العربية، فنقل إلى الدكتور إقبال أنني أدعو إلى مؤتمر الطلبة الشرقيين. فطاب له أن يرى داعيا لا يجد له لسانا. ولما وصلنا إلى الفندق جلسنا وقد ذهب عني روع المقابلة. واستطعت عن طريق المترجم بطبيعة الحال أن أحدث إقبال عن الأحلام التي تساورني وعن الخواطر التي تشغل بالي، فوجدت فيه أول صورة من صور عظمته، وهي صورة التواضع التي تعرف أن البداية دائما صغيرة، وأن الحالمين هم دائما طليعة العاملين الذين يبدأون في تردد وحياء قد تثبت قدمهم، ثم يتضح طريقهم، ثم قد يصلون إلى آخر الهدف، إن لم تزر قلوبهم وان لم يفقدوا إيمانهم. كان إقبال في هذا اليوم صورة غامضة أخذت بمجامع فؤادي واستولت على لبي. وقد سمعته في المساء في جمعية الشبان المسلمين يتحدث عن مجمل فلسفته ويتخذ من الإسراء وسورة الإسراء سبيلا إلى شرح هذه الفلسفة. وقد يكون من الشاق عليكم وقد استنفدت مقدمتي هذه في هذا اليوم أكثر الوقت الذي خصص لي، قد يكون من الشاق علي وعليكم أن أحاول إجمال فلسفته في كلمات أو في دقائق. ولكن حسبي أن أقول أن إقبال قال ذلك اليوم أنه يفهم من سورة الإسراء غير ما يفهمه أكثر المفسرين والشارحين. أنه يفهم من هذه السورة بيانا من القرآن وتأكيدا لهذه العلاقة التي تربط هؤلاء الآدميين الذين يدبون على هذه الأرض بأهل السماء وبمن في السماء وبما تمثله السماء من مثل عليا: من طموح روحي، ومن استشراف إلى هذه المعاني التي تشغل الناس دائما وهي غامضة غير مفهومة، ثم تتضح لهم بعد ذلك. ولقد كنت في هذا الصباح أطالع في ترجمة حياة الدكتور محمد إقبال فوجدت هذه الأبيات تكاد تكون كرجع الصدى لهذه المحاضرة التي سمعتها من الدكتور إقبال نفسه، وهذه الأبيات تصف المسلم فتقول عنه: يبتسـم المسلم في سلمـــه عن رقة الماء ولين الحريــــر وتـبصر الفولاذ في عزمــه إذا دعا الحرب ونادى النفيـــر يـمشى على الأشواك والنــا ر والسيف ويمضى ساخرا بالعذاب فــهو ترابـي ولكنـــه حر طليق من قيود التــــراب! هذه المحنة الإنسانية الأبدية، كون الإنسان ترابيا، وكون الإنسان راغبا في أن يتحرر من التراب، هذه هي خلاصة فلسفة إقبال في كلمات يحاول أن يتقدم بها إليكم غير فيلسوف. هو يريد منا أن نكابد الحياة لا أن نفر منها، وأن نفهم أنها جهاد متصل، وأن الإسلام لا يدعو الناس أبدا لأن يستسلموا، ولا لأن ينفضوا أيديهم من هذه الدنيا بما فيها من متع ولذائذ، حتى متع البدن ولذائذه. فالحياة جملة لا تنفصل، وإنما القوي المؤمن الخلاق هو الذي يستطيع أن يخلق من هذه الحياة على ما فيها من تناقض باد للإنسان شيئا جميلا، وأن يجعلها وسيلة متجددة للخلق والابتكار والإضافة. هذه هي المعاني الكلية في فلسفة إقبال، يشرحها أيضا في هذه الأبيات: إذا ما شئت أن تحظى بسـر تــبوح به الحياة لمستجيب فلا تبعد بنفسك عن لظاهـا كما جفل الشرار عن اللهيب ولا تصحب سوى نظر عريف ولا تـمرر بأرضك كالغريب ولذلك فإن صوت إقبال جدير بأن يكون اليوم حبيبا إلى أسماعنا وإلى قلوبنا، فأهل الشرق جميعا، وأهل هذه المنطقة من العالم على وجه الخصوص، مدعوون لأن يكابدوا الحياة، وأن يكابدوا لهيبها، وألا يفروا منها، وأن يحتملوا تكاليفها، وأن يؤدوا ضرائبها، وأن يؤمنوا بها، ليستطيعوا أن يكونوا خلاقين مبتكرين وأن يضيفوا إلى هذا التراث العربي، وإلى هذا التراث الإسلامي، وإلى هذا التراث الإنساني، ثروات جديدة على عهد أجدادهم وأسلوب هؤلاء الأجداد في الخلق والبناء والقيادة. سـلوا الحرية الزهراء عنـــا وعنكم هل أذاقتنـا الوصـالا وهل نلنا كلانا اليـــوم إلا عراقيب المواعد والمطـــالا عـرفتم مهرها فمهرتـموهـا وما صبـغ السباسب والدغالا وقـمتم دونها حتى خضبتــم هوادجـها الشـريفة والحجالا (شوقى) النبي —صلى الله عليه وسلم— في شعر محمد إقبال للأستاذ الدكتور محمد السعيد السيد جمال الدين 1—المحبة: لم تعرف آداب الشعوب الإسلامية في العصر الحديث شاعرا عبّر عن محبته العميقة للنبي محمد —صلى الله عليه وسلم— بأساليب شتى وطرائق متنوعة، كما عبر الشاعر الإسلامي الكبير محمد إقبال. فما من ديوان من دواوين هذا الشاعر يخلو من أثر لهذا الحب العميق. هو حب فريد في نوعه، عميق في مدلوله، يأخذ بمجامع القلوب. يعبر إقبال عما يشعر به كل مؤمن من محبة صادقة لرسول الله —صلى الله عليه وسلم— فيقول في أحد دواوينه : إن قلب المسلم عامر بحب المصطفى، هو أصل شرفنا، ومصدر فخرنا في هذا العالم. لقد فتح باب الدنيا بمفتاح الدين، فداه أبي وأمي، لم تلد مثله أم، ولم تنجب مثله الإنسانية. نحن الأحرار من قيود الأوطان، كالنظرة نحن، نور عينين، لكن نظرة واحدة! نحن المسلمين من الحجاز والصين، وإيران، وأقطار مختلفة، نحن قطرة من ندى صباح مسفر ضاحك. لقد طرح جانبا التميز بالنسب، أحرقت نارُه ذلك الحطب والهشيم! نحن أزهار كثيرة العدد، واحدة الطيب والرائحة! إنما نحن السر المكنون في قلب النبي، لقد صاح صيحة الجسور، فبات محققا ظهورنا في الوجود! لماذا لا أحبه وأحن إليه، وأنا إنسان، وقد بكى لفراقه الجذع، وحنت إليه سارية المسجد! إن تربة المدينة أحب إلى من العالم كله: أنعم بمدينة فيها الحبيب3. 2—المديح النبوي. في الليلة الثالثة من شهر أبريل سنة 1936م، كان إقبال في زيارة لإمارة بهوبال في الهند، فرأى السيد أحمد خان في منامه، وشكا له أحوال المسلمين، فأشار عليه بأن يرفع شكواه إلى الله —عز وجل— متشفعا في قبول دعوته لأمته بمديح المصطفي —صلى الله عليه وسلم— وحين صحا إقبال من النوم وجد نفسه تفيض بمشاعر المحبة للرسول الكريم –صلى الله عليه وسلم— فجاد طبعه بقصيدة في المديح النبوي، تشبه فيها بالشاعر العربي، شرف الدين البوصيري. وكان البوصيرى قد أصيب بالشلل، فنظم قصيدة في مديح النبي —صلى الله عليه وسلم— فرأى النبي في المنام وهو يخلع عليه بردته، فلما صحا البوصيري من نومه، وجد نفسه وقد شفي مما ألم به من مرض. وقصيدة البوصيري معروفة ومشهورة في الأدب العربي باسم "البردة" ومطلعها: أَمِنْ تَذَكُّرِ جِيْرَانٍ بِذِيْ سَلَــمِ مَزَجْتَ دَمْعًا جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ وإقبال يشير في قصيدة بهوبال إلى البوصيري، فيقول: "أدع الإله يهب لي فتحا، كما فتح على البوصيري كَيما يعود إليَّ ذلك اليوم الذي قد ولى". لكن إقبال لا يطلب الشفاء هنا لنفسه، إنما يطلبه لأمته الإسلامية التي أصيبت بالشلل من جراء حبها للدنيا، ومخافتها الموت. وسوف نجتزئ من هذه القصيدة الأبيات التي مدح بها الشاعر المصطفي —صلى الله عليه وسلم— وتعد من أروع ما نظم في المديح النبوي في الآداب الإسلامية كلها (والترجمة العربية هنا للمرحوم الشيخ الصاوي شعلان): يا رأس مال البائسين ويا منار الحائريـــن ادع الإله يهب لأمتك الشجاعة واليقيــن ويعيذهم من شر خوف الموت من قبل الممات الخوف يُفني البائسين وهم على قيد الحيــاة *** يا من هدمت اللات والعزى وحررت الحــرم وبنيت أعلى أمة تهدي بسيرتها الأمــــــم ذكر الإله ويقظة الوجدان في إنس وجـان مِن فيض وحيك يا صـلاة الصبح يا صوت الأذان وحرارة الإيمان في القلب الـمشوق إلى النضــال وسراج ليل الفكر: لا مـعبود إلا ذو الجــلال من فيضِ روحكَ كل هذا الفضل والعزّ المكيــن وبناء صرح المجد في توحيد رب العالميـــــن *** ذكراك وردٌ سائــغ يحلو به العيش المريـر وبغيرة الإيمان صــار الدين كنـزا للفقيــر يا منتهى كل المنـازل في طريق السالكيــن يا مـن إلى أنــواره تهفو قلوب العاشقـين قيثارتي ثقلت وأعيـا ها التجاوب والرنـين أوتارها لا تستجيـب إذا عزفتُ ولا تبــين طَوَّفتُ في أرض الأعاجم ثم في أرض العرب لم ألق فيها المصطفي ولكن رأيت أبا لهـب *** أنت الهداية والدليل وأنت عرفاني وفكري وسفينتي في الدين والدنيا وطوفاني وبحري *** كل الخمائل في رياض الكون أنت ربيعها منك الفواضل كلها والمكرمات جميعهـا *** إن كان عمري قد بدا خُلوًا من المحصول جدبا ما زلتُ أملك مضغة يدعونها في الحب قلبــا أخفيته لأكون فردا في هواك وفي رضـــاك وعليه خاتم حبك الغالي فليس به ســـواك 3—التأسي والرسول بهديه وسنته ينبغي أن يظل شاخصا أمام المؤمن، لا يغيب عن ناظريه، يستلهم منه خطى حياته كلها، ويتأسى به في الفضائل والمكرمات، بل ويستشعر الخجل منه إذا أقدم على إثم من الآثام أو اقترف ذنبا من الذنوب. وقد روى إقبال في ديوانه "أسرار الذات" حادثة جرت له في صغره، يتبين منها كيف أن أباه —وكان رجلا متوسط الحال— لم يكن يترك فرصة أو حادثة صغيرة تمر في حياة ولده إلا ويؤكد فيها على تربية النـزعات الإنسانية في وجدانه وتلقينه الآداب النبوية الشريفة، وتعميق إحساسه بأن الله —عز وجل— رقيب على أفعاله، التي ينبغي أن يتأسى فيها بالنبي الكريم، وأن يوم العرض والحساب يوم عسير، تعرض فيه أعمال أفراد الأمة على مرأى من النبي الشافع. ومجمل القصة أن رجلا فقيرا طرق باب البيت، ففتح له الصغير "إقبال" الباب، وسأله عن حاجته، فطلب طعاما يسد به جوعه، فثار عليه الصغير ثورة عارمة وضربه بعصا كانت بيده، وأخذ الرجل يطلب إليه أن يترفق به، ويكف عن إيذائه ويمسك عنه يده فلا يضربه. وفجأة يصل الأب، ويشاهد الموقف، فيفهم ما حدث، يقول إقبال: "ورآني أبي فاغتم وتغير وجهه وتأوّه، وسال الدمع من عينيه ثم حدّثني قائلا: يا بني! تجتمع أمة "محمد" غدا، تجتمع أمام الله يوم القيامة، ويحشر المجاهدون والحكماء والشهداء، ويقف الملوك والأمراء والعلماء ثم يأتي هذا السائل المسكين، فماذا أقول إذا قال شفيعنا المصطفى: "إن الله قد أودعك شابا مسلما، فلم تؤدبه بأدبي، بل لم تستطع أن تجعله إنسانا" فتمثل يا بُني عتاب النبي الكريم، تمثل مقامي بين الخوف والرجاء تفكر يا بني، اذكر اجتماع الأمة أمام مولاها يوم الحشر انظر إلى شيـبي واضطرابي وقلقي، ولا تقسُ على أبيك ولا تفضحه أمام مولاه إنك وردة في غصن المصطفى، فخذ من سيرته شيئا من اللون والرائحة.. لا بد لك تظفر من خلقه بنصيب". يناجي إقبال الله تعالى: "إن حلت منيتي وانقضى أجلي، فاقبل يا رب معذرتي يوم الحشر، وإن كان لابد من حسابي، فأسألك يا إلهي أن تحاسبني بنجوة من سيدي المصطفى، فأنا أستحي أن أنتسب إليه، وأكون من أمته، وأقترف هذه الذنوب والمعاصي" . وهذا التمثل لخلق النبي والتأسي به واستحضار مناقبه والشعور بالخجل من مقامه في حال اقتراف الذنب وارتكاب المعصية، كل ذلك ينبغي أن تُبذر بذرته في نفس الطفل منذ صغره. وحين يوجه إقبال النصح في شعره إلى الشباب بعامة، ولابنه "جاويد" بخاصة، لا يجد من الكلمات الجامعة المؤثرة في النفوس الشابة أكثر وقعا وأبعد صدى من أحاديث الرسول ووصاياه، فيقتبس إقبال في شعره من هذه الأحاديث الشريفة ويضمنها أشعاره؛ يقول موجها نصحه إلى الجيل الجديد، مقتبسا من الحديث النبوي: "لا تفقد العدل في الغضب والرضا، ولا تفقد القصد في الفقر والغنى، إن سر الدين صدق المقال وأكل الحلال، عش قاطعا في طريق الدين مثل الماس، أوثق ربط القلب بالله، وعش بلا وسواس، الهمّ ضعف إيمان وملل، أيها الشاب: الهم نصف الهِرم.. أتدري؟ إن الطمع هو الفقر الحاضر، أنا فداء لمن قهر نفسه" . لقد جرب إقبال نفسه في فترة تكوينه العلمي —وإبان تعلمه في أوربا— قيمة التمسك بسنة المصطفى، ووجد أنه يعصم الإنسان من الزلل، ويحول بينه وبين الانبهار بالمظاهر البراقة الكاذبة، ويخرجه من النار رجلا كامل العيار كالذهب الخالص لا شوب فيه، يقول في بعض أشعاره: "لم يستطع بريق العلوم الغربية أن يبهر لُبى، ويُعشى بصري، وذلك لأني اكتحلت بإثمد المدينة المنورة". ويقول: "مكثت في أتون التعليم الغربي، وخرجت كما خرج إبراهيم من نار نمرود". ويقول: "لم يزل ولا يزال فراعنة العصر يرصدونني، ويكمنون لي ولكني لا أخافهم، فأنا أحمل اليد البيضاء…لا تعجبوا إذا اقتنصت النجوم، وانقادت لي الصعاب، فإنني من أتباع ذلك السيد العظيم الذي تشرفت بوطأته الحصباء، فصارت أعلى قدرا من النجوم، وجرى في إثره الغبار، فصار أعبق من العبير" . 4— درس القوة والمؤمن إذا أصابه الظلم أو حاق به العدوان، لا يجد إلا في صفات النبي وشمائله سلاحا يذود به عن نفسه، ويرد به كيد عداه! في إحدى قصائده يتحدث إقبال عن صفات النبي التي ينبغي أن يتحلى بها المؤمنون، فيتملكون بها قوة هائلة تخيف أعداءهم حتى ولو كان المؤمنون عزلا من السلاح. فالنبي يُعلّم الناس درس القوة ولو كانوا ضعفاء، ودرس الكرامة ولو بدوا في أعين أعدائهم لا يؤبه بهم ولا يحسب حسابهم، يقول : وحبُه يعمر الصدور الخوالـي بقلوب جديدة الإيمــــان درسُه العزم والرضا المـحض والتسليم منه في السر والإعلان كسراج يشق قلب الدياجـي باهر الضوء ساطع البرهــان يصبغ الروح في الجسوم بلون غير كل الرسوم والألــوان *** إن أردت الفقر الغيور فلا تفقد مع العدم ثـروة الإيـمـان فـمن الحال لا من الجاه والمال دوام الرضا والاطمئنـــان رأس مال الأحرار: صدق وإخلاص ووجد وحرقة وتفانـى ليس في الحلي والمظاهر والثوب المُوَشَّى والأصفر الرنـــان ويختم هذه القصيدة الرائعة بقوله: الوجود الأسـمى هو المؤمن الحر الأبي الوفي في كل آن وبقايا الوجود فيما سواه مظهر حائل وظل فانـــي حين يدعو أن لا إله سوى الله القدير المهيمن الديــان يُذعِن الكون والمكان ولا يُشرق إلا بفوزه القمــران *** خاتمة يقول واحد من كبار النقاد العرب : "إذا كان حسان شاعر الرسول — صلى الله عليه وسلم— فإن محمد إقبال، شاعر الرسالة". وأنا أقول: إن محمد إقبال لم يكن شاعر الرسالة فحسب، بل كان كحسان —رضي الله عنه— شاعر الرسول أيضا، فكان إقبال بذلك شاعر الرسول والرسالة في عصرنا الحديث. رسالة محمد إقبال للدكتور عثمان أمين الدكتور محمد إقبال شخصية جذابة، لها على القراء سحر عجيب! ولعل مرجع ذلك إلى أنه يغوص في المعاني الفلسفية العميقة، فيحسن تناولها وسبكها، ويجليها للناس ببيانه الألمعي وشعره الناصع وتشبيهه الرائع، ويجعل كتبه، على غزارة مادتها وعمق موضوعاتها، روضة غناء تسر الناظرين. ومحمد إقبال علم من أعلام الإسلام، وقائد من قادة الفكر في الشرق، ورائد من رواد الإصلاح في هذا العصر ونستطيع أن نقول إنه إلى جانب شخصية جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده المصري وعبد الرحمن الكواكبي السوري، ستظل شخصية محمد إقبال من أبرز شخصيات التاريخ الإسلامي الحديث. كان إقبال من أكثر مفكري المسلمين إحاطة، ومن أشدهم ابتكارا في الوقت نفسه. كان واسع المعرفة بمذاهب الفلسفة الإسلامية والفلسفة الغربية، كما كان على دراية بالمبادئ الأساسية في العلوم الطبيعية والبيولوجية والاجتماعية. فأمدته هذه المعرفة بمادة خصبة صاغتها عبقريته مذهبا ضافيا جمع فيه بين العلم والفن والدين، وفيه نفحات من التصوف الإسلامي على العموم، ومن خطرات "جلال الدين الرومي" على الخصوص، ومن نظرية "نتشه" في "الإنسان الكامل"، ونظرية "برجسون" في المعرفة الحدسية، أي المعرفة عن طريق القلب. ولمحمد إقبال فوق هذا فلسفة خاصة نجد فيها قبسات من مذهب الفيلسوف الأخلاقي "كانت" ومنها نزوع إلى العمل وتغليب له على جوانب النظر الخالص. ويبدو أن ما حاوله إقبال في تاريخ الفكر الإسلامي شبيه من بعض الوجوه بما حاوله "كانت" في الفكر الغربي. وقد عبر الشاعر الفيلسوف عن آرائه في طائفة من القصائد نظمها باللغة الفارسية واللغة الأردية، فاستجابت لها الشبيبة المسلمة، ثم بسطها بعد ذلك في سلسلة من المحاضرات ألقاها باللغة الإنجليزية سنة 1928م ونشرها سنة 1934م بعنوان "تجديد بناء الفكر الديني في الإسلام". إن فلسفة إقبال ذات طابع ديني عميق، وهي في جوهرها تمجيد للإسلام وبعث للحياة والقوة في المسلمين، وتبشير لهم بمستقبل مجد وفخار إذا ساروا في حياتهم على هدى دينهم. ولا ينفك إقبال متغنيا بمآثر الإسلام، وفي غنائه دعوة إلى النهوض والتشمير وحث للخطى على متابعة السير مع القافلة. ولنستمع إليه يقول: "الغاية القصوى للنشاط الإنساني هي حياة مجيدة فتية مبتهجة. وكل فن إنساني يجب أن يخضع لتلك الغاية. وقيمة كل شيء يجب أن تحدد بالقياس إلى تلك القوة على إيجاد الحياة وازدهارها. وأعلى فن هو ذلك الذي يوقظ قوة الإرادة النائمة فينا، ويستحثنا على مواجهة الحياة في رجولة. وكل ما يجلب إلينا النعاس ويجعلنا نغمض عيوننا عن الحقيقة الواقعة فيما حولنا إنما هي رسالة انحلال وموت".. وهذه والنغمة تذكرنا بنغمات "نتشه" صاحب كتاب "إرادة القوة" وبهذا المعنى يتغنى إقبال بعزيمة المسلم فيقول: يبتسم المسلم فـي سلمــه عن رقة الماء ولين الحريــر وتبصـر الفـولاذ في عزمـه إذا دعا الحرب ونادى النفيـر يمشي على الأشواك والنار والسـ يف ويمضى ساخرا بالعـذاب فـهو ترابي ولكنـــه حـر طليق من قيود التراب ويعبر عن قوة الإيمان في "شعار المؤمن" فيقول: لم أحن رأسي خاشعا إلا لمن بيمينه الإحيـاء والإفنــاء فقري لخلاقي غنى عن خلقه فأنا الغني وإٍن غدوت فقـيرا وأرى فناء العيش خيرا للفتى من أن يعيش على الغناء أسيرا رأى إقبال أن الرجل الأوربي الحديث قد طغت عليه نتائج نشاطه العقلي الصرف، فلم يعد يعيش بروحه، وأصبح لا يكاد يحس حياة الباطن: فهو في مجال الفكر يعيش في نزاع مع غيره، وهو يجد نفسه في أغلب الأحيان عاجزا عن ضبط أنانيته وشهواته وتكالبه على المادة تكالبا لا يعقبه إلا الحسرة والشقاء. "وقد كانت الحرب العظمى التي قامت في أوروبا قيامة كادت تمحو نظام العالم القديم من كل جوانبه. وإن الفطرة لتخلق اليوم في أعماق الحياة من رماد الحضارة والثقافة إنسانا جديدا، وتخلق عالما جديدا لإقامة هذا الإنسان، عالما يرى هيكله غير البين في مؤلفات اينشتين وبرجسون.. لقد رأت أوروبا بعينيها النتائج المخوفة لمثلها الاقتصادية والأخلاقية والعلمية.. ولكن وا أسفاه! لم يستطع وعباد القديم الذين سمعوا حقائقه أن يقدروا الانقلاب المدهش الذي كان يثور في الضمير الإنساني". فإذا نظرنا إلى الشرق، ولا سيما الشرق الإسلامي، وجدناه يفتح عينيه بعد نوم القرون المتطاولة. "لكن يجب على أمم الشرق أن تتبين أن الحياة لا تستطيع أن تبدل ما حولها حتى يكون تبدل في أعماقها، وأن عالما جديدا لا يستطيع أن يتخذ وجوده الخارجي حتى يوجد في ضمائر الناس قبلا. هذا قانون الفطرة الثابت الذي بينه القرآن في كلمات يسيرة وبليغة: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ إنه قانون يجمع جانبي الحياة كليهما، الفردي والاجتماعي. وأنه لجدير بالإكبار كل مسعي في العالم، ولا سيما في الشرق، يقصد إلى أن يرفع أنظار الأفراد والجماعات فوق الحدود الجغرافية، فيولد أو يجدد فيها سيرة إنسانية صحيحة". ولقد كان إقبال شديد الإيمان بأن للدين الأهيمة العظمى والأثر الفعال في توجيه حياة الفرد والجماعة على السواء. وكان يرى أن الدين الإسلامي "دين مفتوح" إذا صح أن نستعير هنا عبارة "هنرى برجسون" في كتابه "منبعا الأخلاق والدين"، بمعنى أن رسالته رسالة إنسانية ليس لها حدود زمانية أو مكانية، وأن به قوة كامنة تستطيع أن تحرر نفوس البشرية من قيود الأجناس والألوان والعصبيات. وخلاصة رسالة الإسلام عند إقبال هي إقرار الحرية وتدعيم العدالة وتوطيد المحبة بين البشر. وهو يقول في هذا الصدد: "ليست غاية الإسلام منحصرة في الواردات الذاتية التي تجعل المرء بمعزل عما حوله من الأشياء وعمن حوله من الناس، بل بناء للتربية التي تجعل الفرد صالحا لأن يكون منه ومن غيره مجتمع صالح له أنظمته القويمة وإن العصبيات التي تدعو إلى البغضاء والتنفير هي وضيعة مهينة ليس لها في الإسلام وجود". وإذا كان محمد إقبال صاحب فكرة الهند الإسلامية التي تحققت بإنشاء باكستان، فالهدف الذي كان يصبو إليه هو "إشهاد العالم أمة مثالية تؤثر في حياة المسلمين جميعا، وربما امتد أثرها كذلك إلى جميع أقطار المعمورة". واضح إذن أن فيلسوفنا لم يكن يميل إلى القوميات ولا إلى الإمبراطوريات التي تقضي على عواطف المحبة والأخوة وتبذر بذور البغض والحرب، بل إنه كان يحلم بعالم مطمئن لا يخضع لسلطان السياسة، ولا يساوره الهم والخوف واليأس، عالم سعيد يهتدي بهدى الدين، ويؤمن بالقيم الرفيعة، ويجعل المادة خادمة للروح "لأن المادة ظلمة وكثرة وفناء والروح نور ووحدة وبقاء". تلك رسالة تعاطف وأخوة وسلام، يوجهها شاعر فيلسوف، لا إلى المسلمين فقط، بل إلى ضمير الإنسان. وآراء محمد إقبال في الجمال مرتبطة أوثق رباط بفلسفته العامة، وعلى الخصوص بذلك الجزء من فلسفته الذي يطلق عليه اسم " فلسفة الذات" وخلاصة هذه الفلسفة أن حياة الإنسان تتجلى في "الذاتية" أو "الشخصية"، وإن المثل الأعلى للوجود الإنساني هو الوجود الذي تحققت فيه قوة الشخصية وتربية الذات فبلغت أعلى مقام. وهو يقول في " ضرب الكليم": ربب الذات بالرعاية تبصــر كف ترب يشيع في الكون نارا وهو يرى أن "شخصية الإنسان من الوجهة النفسانية هي حال من التوتر، ودوام الشخصية على هذه الحال، فإن زالت هذه الحال تبعتها حال من الاسترخاء مضرة بالذات". كما يرى أن معاناة الشدائد والمحن وممارسة الحرية والابتكار تقوي الذات وتزكيها، وإن الاسترخاء والتقليد والروتين يضعفها ويوهنها. وهو يقول في "ضرب الكليم": محكما كالجبال عش، لا ضعيفا واهن النار طائشا كالهشيــم ويقول عن مقام الذات واستقلالها: لها فوق أوج الثريا مقام جليت بها وتجلت صفاتك آمن ذات غيرك تعمر قلبا معاذ الإله ! ترى أين ذاتك؟ وقد كان لفلسفة الذات هذه أثرها العميق في تصور إقبال للجمال، فقد رأى أن ذاتنا معيار القيم الإنسانية بوجه عام، ومعيار الحسن والقبح بوجه خاص. فالجميل عنده هو ما تدركه الذات في سموها واعتلائها، والقبح هو ما تدركه في هبوطها واستفالها: عالم الذات به علو وسفــل واعتراك القبح فيه والجمال في اعتلاء الذات ما يبدو جميلا وقبيح ما بدا في الاستفال ويرى إقبال أن الفن ينبغي أن يصور لهيب الحياة الأبدي الذي لا ينقطع، فلا قيمة للفن الذي يخرج شرارا واهنا لا يلبث أن يخمد. وحياة الأمم تدوم بدوام إبداعها وإعجازها، فالفن الذي لا إبداع فيه ولا إعجاز، عارية لا تدوم. إن كان نسيم الصباح المتمثل في شعر، واللحن المنبعث من الموسيقى يذبل أزهار الرياض ولا ينضرها، فأي نسيم هو؟ فإن لم تنفذ نظرات الفنان إلى سر الكون وحقائق الأشياء فما هي بمجدية ولا قيمة لها. وقد كان إقبال من المعجبين بالقوة إعجاب "نتشه" بها، فكان لذلك الإعجاب أثره في نظرته إلى الجمال. كان يرى أن الجلال يفوق الجمال بما يتجلى فيه من قوة وما يبعث في النفوس من رهبة. لذلك كان يرى في الشجاعة التي تتجلى في ركوب الأخطار جلالا، ويرى في سجود الأفلاك للقوة روعة وبهاء. بل ذهب الشاعر إلى أنه هو لا يحب أن يعذب إلا بنار قوية تلتهب التهابا: وأرى جمالا في بـهاء أن ترى في سجدة للقوة الأفــلاك ولنغمة من دون نار نفخــة ما الحسن إلا بالجلال يـحياك لا أرتضـي نار الجزاء ولم تكن وهاجـة ولهيبـــها دراك ومن أجل ذلك لا يعجب بالنهر يساير الأرض، بل يعجب بنافورة قوية تقذف الماء عاليا في الهواء. وخلاصة مذهب إقبال في الفن الجميل أنه ينبغي أن يصور ذات الفنان، فالذات العاشقة المتحررة المقدرة نفسها تنطلق من قيود هذا العالم المتغير، وتندرج في سلك الخلود، وتفلت من سلطان الجبر، فيكون فنها حرا مثلها. ويرى إقبال أن الفن الذي يعبر عن قوة الذات وحرقة الحياة، هو الفن الذي يفتح القلب ويبرئ من الخوف والغم ويرفع النفوس، هو فن حلال! أما الفن الذي يضعف الذات ويميت القلب ولا يقبس من نار الحياة فهو فن حرام! وهذا ينطبق على الشعر والموسيقى والغناء وسائر الفنون. لهذا كان إقبال ينفر من فنون الرخاوة والمذلة، ويرى أن الشعر، وكل فن ينبغي أن يكون في حدة السيف ملائما لمعركة الحياة، مهما تكن صورته. ولذلك أخذ يحذر الشرقيين من الفنون المستعارة التي تدعو إلى الرقة والترف وتوقظ الجسم وتنيم الروح. والفنان عند إقبال يسعى دائما مسوقا بما في نفسه من شوق إلى الكمال وعشق للجمال إلى أن يخلق في ذاته وفي العالم من حوله مثلا أعلى خالدا. فرسالته رسالة حياة وإيقاظ وحب وأمل. وإذا بليـت بظالم كن ظالـمـا وإذا لقيت ذوي الجهالة فاجهل وإذا الجبان نـهاك يوم كريهـة خوفا عليك من ازدحام الجحفل فأعص مقالته ولا تحفل بهــا وأقدم إذا حق اللقـاء في الأول واختر لنفسك منـزلا تعلو بـه أو مت كريما تحت ظل القسطل (عنترة العبسي) إقبال: الشاعر الثائر للأستاذ نجيب الكيلاني النـزعة الإنسانية والعالمية في شعر إقبال "… يا ضياء الإنسانية والإخاء، طارد بقوتك ظلام البغضاء حتى تزول عن أنفسنا الشكوك والوساوس، عسى أن تشاهد الأمم مرة أخرى وجه السعادة التي اختفت خلف مطامع المتحاربين". هذا بعض ما قاله إقبال، حينما كان يحلم بعالم تسوده المحبة والإخاء وتتحطم فيه —كما أسلفنا— حواجز الدم واللون والجنس، وتندثر أحقاد الطبقات التي لا تقدم إلا على مشاعر البغض والتناحر والاستبداد.. لقد كان يهفو إلى عالم نظيف، قد هجعت فيه الحروب واستكانت المطامع الحمراء ونامت الأهواء الكافرة. ونظر إقبال بعين الحقيقة والواقع إلى العالم الحديث، فبدت له أمراضه واضحة كالشمس فكان أول ما راود ذهنه أن ينقذ السقيم مما دهاه، لذا وضع فلسفته الخالدة، التي ارتآها لأنها وقود الخلاص.. وروح البعث الإنساني، وحادي القافلة العالمية إلى طريق السعادة والهدى. وقد التزم في فلسفته جادة الإسلام، واتخذها سبيلا إلى الحرية بعد أن درس وبحث وفكر وعاش في خضم الحضارات المختلفة والمدنيات المتعقبة بقلبه وفكره، فتيقن أنه لا خلاص للعالم إلا بدواء الإسلام —بروحانيته وماديته— كما رأى ’برناردشو‘، و ’تولستوي‘ وغيرهما من فلاسفة الغرب مثل هذا الرأي. ولم يشغل تفكير إقبال قضايا العالم الإسلامي والعالم العربي فحسب بل تناول كل ما يشغل أذهان العالم من مشاكل، فتحدث عن عصبة الأمم، وعن هؤلاء الذين يعبثون بقداستها وقوانينها، ويسخرونها لأهوائهم حتى أنه كان من أول المتنبئين لها بالتمزق والفشل لبعد نظره السياسي، وناقش نظريات الحكم المختلفة، وواجه ’موسوليني‘ برأيه في قوة وحزم، وبسط له تبلبل الأفكار في الأمة الإيطالية، ومغزى الحكم الدكتاتوري، وتنبأ أيضا بانهيار إيطاليا السياسي عن قريب، وقد حدث ما توقعه إبان الحرب العالمية الثانية. وناقش إقبال قضايا الاشتراكية، واعتقادات الشيوعية، وفلسفتها، وضرب بسهم وافر في شرح المذاهب العالمية وماهيتها، شأن العالم المتبصر الخبير. وكثيرا ما ترى في شعره صورة لصراع الحبشة من أجل التحرير، وثورات الشام وهي تناوئ الاستعمار، وتمرد الهند وهي تدافع الغزاة، وتحذيره من اليهود وهم يحيكون الألاعيب والمؤامرات، وخطط سماسرة السياسة، ومستغلي الشعوب الذين يبيعون أنفسهم وضمائرهم للشيطان. لقد كان نصيرا لقضايا الحرية في كل مكان في الشرق والغرب.. وكان غيورا على الأخلاق، ثائرا على ضياعها عند الغربيين المنحلين المارقين أو الشرقيين الجامدين الخانعين.. وكم كان حزن إقبال أليما! حينما طلقت تركيا إسلامها، وقضى ’كمال أتاتورك‘ على الخلافة الإسلامية وعلى صلة تركيا بالعرب، وقذف بنفسه في أحضان الغرب بلا تحفظ، ولكم نعى على ’رضا بهلوي‘ في إيران سياسته المتعجرفة التي تؤمن بكل ما يأتي به الغرب، وكان ’إقبال‘ يظن أن أمثال هذه الحركات في ’تركيا‘ و’إيران‘ وغيرهما ليست إلا خبط عشواء، والتباس أفكار ومركب نقص، وإيمانا مطلقا بروعة المدنية الحديثة على علاتها وكان يعتقد أن حركة البعث الحقيقية هي يوم أن يهب المسلمون من غفلتهم، وينشروا نور مبادئهم وحضارتهم العريقة ويجوبوا ميادين العلم والكفاح في همة ونشاط !.. و إقبال يرى أن حكم الشعوب يجب أن تسيره الفئة الفاهمة الواعية والتي لها من نضوجها وإيمانها عاصم من الزلل والميل، لهذا فهو يأخذ على النظام " الجماهيري" أنه لا يزن الرجال الوزن الحقيقي، بل يعتمد على العدد لا القيم الشخصية، وبمعنى آخر قوامه ’الكم‘ لا ’الكيف‘ وإقبال بهذا يرى أنه من الأوفق والأرجح أن يكون للفئات ذات الكفاءة المرموقة كلمتها ورأيها، كما كان في صدر الإسلام بالنسبة لأهل ’الحل والعقد‘ لذا يقول إقبال: نظام الجماهير حكم به تعد العباد ولا توزن ومع ذلك ’فإقبال‘ يحترم رأي الأغلبية، ويسير على رأي الجماعة لأنه صاحب نظرة.. ديمقراطية سليمة، وفي نفس الوقت صاحب وجهة نظر طيبة ترفع من قيمة الإنسان وتقدر كفاءته ومواهبه الشخصية!.. و إقبال لا يفتأ يردد الشكوى من طغاة العالم الذين يذيقون الشعوب الضعيفة الويلات، ويبكي من أجل السلام الضائع والقوة الغاشمة التي لا قلب لها ولا ضمير!.. كم أصاب الإنسان في هـذه الأ رض من أسكندر ومن جنكيز ويقول التاريخ في كل عصــر خطــر فرط قوة لعزيــز وهي سم بغير ديـن، وبالـديـ ن دواء لكل ســم نجيــز وهكذا ظل إقبال طول حياته يحارب السياسة اللادينية في ’روسيا‘ و’تركيا‘ و ’أوروبا‘ وفي أي مكان لأن ’الميكافيلية‘ ليست كما يرى من الإسلام، ويعتقد أيضا أن السياسية اللادينية ستورد الإنسان موارد التهلكة والدمار، وتسلبه أسمى ما يعتز به من مشاعر وتقاليد وعقائد.. ما الحق مخف عن فؤادي سـره فلقد حباني الله قلبا مبصــرا فسياسـة اللادين عندي خسة مات الضمير بها وإبليس افترى لما قلى حـكم الفرنج كنيسـة ساسوا كشيطان بلا قيد جرى شرهت لأموال العباد كنيسـة فإذا الخميس سفيرها بين الورى فالاستعمار أنى حط رحاله، وحيثما ألقى بعصاه، يأخذ أكثر مما يعطي ويهدم أكثر مما يبني، ويفسد أكثر مما يصلح لأنه يأبى إلا أن يظل محتفظا بصولجانه، متمتعا بسلطانه، حائزا على أسباب الثراء والنفوذ!.. لقد كان إقبال ينشد البعث لأمم الأرض قاطبة، ولا يرجوه للمسلمين فحسب، فحال أوربا في نظره لا ترضى، وخطتها منحرفة، وكذلك حال الشرق لا تسر.. علة الشرق ذلة واقتـــداء ونظام الجمهور في الغرب داء مرض القلب والبصيرة فـاش ما بشرق ولا بغرب شفـاء فكان لا مناص من أن تتسع رقعة فلسفته فتشمل القاصي والداني، وتتناسى الألوان والأجناس وعناصر التفرقة، فكلهم في نظره يحتاج إلى رعاية وعلاج وصحوة، سواء في ذلك الغاصب والمغصوب، وإزاء ذلك كان لا يفتأ يصرخ بنـزعته الإنسانية العامة التي لا تعرف التعصب، فلا هو بهندي ولا عربي ولا شرقي ولا غربي، أنه إنسان وكفى، وبشر يؤمن "بذاته" وإنسانيته، فقد علمته فلسفته الذاتية أن يحلق فوق مستوى الأهواء والتفرقات: إلى عصبات العرب ما أنا مُنتم ولست بهندي ولا أنا أعجمي فقد علمتني "الذات" تحليق نافر يمر على الدارين غير محــوم فدينك تعداد لأنفاس محجـم وديني إحراق لأنفاس مقـدم ومع إحساس إقبال بهذه النـزعة العالمية، إلا أنه يرى أنه هندي أعجمي بحكم المولد والنشأة، فيقول: وماذا في ذلك؟.. إذا كنت هنديا في أنغامي، فإني ’عدناني‘ الصوت مسلم حنيفي، وإذا كانت كأسى من صنع الأعاجم، فإن خمرتها حجازية المنبع، وأفكاري مستمدة من النبي العربي، وهل الإسلام إلا دين الله في الأرض ووصيته الأخيرة إلى الناس عامة، وقد انضوى تحت لوائه الطوراني والساماني.. والشرقي والغربي: أنا أعجمي الدن لكـن خمرتـي صنع الحجاز وكرمها الفينان إن كان لي نغم الهنود ولحنهـم لكن هذا الصوت من عدنان ولقد توارد في شعر إقبال أسماء الأعلام من أئمة الفكر والحرب والدين والسياسة في شتى العصور والبقاع، فكان شعره موسوعة لهؤلاء جميعا، تحدث عن ’محمد‘ (ص) و’عيسى‘ و’جنكيز‘ و’الأسكندر‘ و’نيتشه‘ و’أفلاطون‘ وتعرض ’لموسوليني‘ و ’ابن الرومي (الجلال الرومي؟!)‘ و’ابن سينا‘ وأحنى رأسه إعجابا بـ ’علي‘ و’عمر‘ و’أبي ذر‘ وتحدث عن الفلاسفة والصوفية والملحدين والمؤمنين، كل ذلك لأنه كان إنسانا يعيش بكل ذرة من كيانه، فشعر إقبال سجل حافل للأحداث التاريخية والسياسية العالمية، وسفر جليل لماضي الإسلام وحاضره.. إقبال والشعراء العرب لبروفيسور محمد إبراهيم دار تعريب: محمد سميع مفتي إن شاعرنا إقبال كان يخالف العجمية وكان مولعا بالعروبة، فإنه انتقد حافظا انتقادا شديدا —من وجهة النظر الأدبي— في الطبع الأول للديوان "أسرار إثبات الذات"، فكرهته الأوساط الصوفية وغضبت. وكذلك نشأ خلاف بين الخواجا حسن نظامي والمولوي ظفر علي خان واشتد إلى أن ظهر بشكله السيء. وكُتب على أفكار إقبال ووجهات نظره كثيرا، موافقا ومخالفا. وإن كان شاعرنا واثقا من رأيه وثوقا تاما ولكنه شطب ما كتب عن حافظ في الطبع الثاني للديوان إرضاء للجمهور. ولسد هذه الثغرة جاء بمعيار يقاس عليه أهمية الأدب الحقيقية وقيمته وقدره. فإقبال لا يجد في حديقة العجم رائحة الحياة فيشير كشاعر وأديب إلى أن يترك اجتناء الورود والأزهار من حديقة العجم ويتمتع بغزارة أجواء العرب العطرة المعطية الحياة، ويسلم قلبه إلى سلمى حتى يشرق الصبح الحجازي من الليل الكردي. فيقول في بيت له: مــن بفكر صـالح فـي الأدب ارجعــن يا صاح شطر العـرب وسليمى العرب يا صـاح اعشقا لترى صبــح الحجاز ائتلقــا في رياض العـجم قطفتَ الزهـر في ربيـع الهـند سرحت البصـر من حـرور البيد فاشرب يا رفيق واشربن من تـمرها الراح العتيق ولكنه من العجب أنه لم يظفر من إخلاء نفسه عن تأثير الشعراء الفرس رغم رغبته عن العجمية. وجاء أخونا الحبيب الدكتور سيد عبد الله بمقال له باسم "الشعراء الفرس الذين يرغب فيهم إقبال". وأظهر فيه بعد بحث طويل وجهد شاق أن إقبال كان قد تأثر شدة التأثر من الشعراء الفرس. وأما مرشد الروم فهو قائده في السماوات والأرضين. وهناك عشرات الشعراء —غير الشيخ الرومي— يستفيد إقبال من شعرهم. ومقابلا من ذلك لا نرى أثرا للشعراء العرب في ديوانه "رنين الجرس" إلا قليلا. فإنه تأثر عندما زار صقلية أثناء سفره إلى أوربا ورأى فيها — كما يعبر عن شعوره— مقبرة الحضارة الحجازية، لأن صقلية كانت إحدى مناطق الحضارة الإسلامية. فيدعو العينَ المهراقة إلى البكاء بعبرات دموية على أطلال تلك الحضارة بكاء يشفي المحزن، ومن أعماق قلب مسلم. وعندما يرثي تلك الأرض المقدسة يتذكر الشاعر السعدي والشاعر داغ الدهلوي . السعدي الذي فاضت عيناه دما على سقوط خلافة بغداد، وداغ يرثي الدلهي عندما تخرب تلك المدينة وتقفر، وقد اشتهرت قصيدته "شهر آشوب" والتي رثى بها المدينة، وإن كان لا تعادل في صدق الشعور وشدة الحزن وقوة التأثير ما رثى به مولانا حالي دلهي دلهي، والتي قال فيها: لا تذكِّرنا يا صاح بدلهي المرحومـة فلا نستطيع أن نسمع هذه القصة أبدا ففي هذا التسلسل يتحول فكر إقبال إلى ذكريات دولة غرناطة فيذكر اسم ابن بدرون (ابن عبدون؟!) الذي قام قلبه الحزين بالنياحة على تلك الدولة، عندما رأى أن السماء قد خربتها. فابن بدرون أو ابن عبدون هو شاعر عربي وحيد نجد ذكره في "رنين الجرس". تعال لنرى من كان ابن بدرون وهو الذي شرح رثاء ابن عبدون لغرناطة وغيره من الموت الأندلسية هذا وأي تصنيف أدبي له تأثر منه شاعرنا إقبال إلى هذه الدرجة. ابن بدرون لا نعرف عنه إلا قليلا. فهو من أدباء القرن السادس الميلادي. واسمه الكامل الشيخ الإمام الكاتب الوزير أبو مروان عبد الملك بن عبد الله بن بدرون الحضرمي الإشبيلي، كما هو مذكور في معجم المطبوعات. ومن هنا عرفنا أنه كان يمنيا كما هو يتضح من نسبته إلى حضر موت، ولكنه عاش أكثر أيامه في مدينتي إشبيلية وسبتة، فلذا كان يعرف بنسبته الإشبيلي والسبتي. وكان في زمانه أديبا مشهورا، وعين وزيرا كذلك —وربما لبراعته في الكتابة والإنشاء— وعاش إلى سنة 608 هـ. وسبب شهرته شرحه الذي كتبه لقصيدة عبدون الرائعة، وطبعه أول مرة دوزي المستشرق الهولندي المعروف، سنة 1846م، وبعد ذلك طبع في مصر. وقصيدة ابن عبدون الأصلية طبع في كتاب مسماه "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" لعبد الواحد المراكشي. وتشرف دوزي بطبع هذا الكتاب أيضا. وكان عثر على مخطوطة هذا الكتاب في مكتبة لائيدن. فطبع هذه المخطوطة كتابا بعد دقة واجتهاد تام في البحث فيه سنة 1847م من نفس مدينة لائيدن. وشأن نزول قصيدة ابن عبدون المحزنة للقلوب ومهزِّئتها، أن حكام بني الأفطس كانوا يقدرون العلم والفن، وعاصمتهم كان بطليوس. ورئيسهم عبد الله ابن الأفطس كان ملقبا بلقب المظفر، وكان بارعا في علم النحو واللغة والشعر والتاريخ وفي فنون أخرى. وابنه عمر الذي لقب بـ "المتوكل على الله" بلغت شهرته الآفاق في الحماسة والفروسية من جهة وفي الإنشاء والشعر من جهة أخرى. وبقيت هذه الأسرة تحكم البلاد إلى 485هـ وآنذاك قُتل عمر وابناه الفضل والعباس بالقساوة الشديدة على أيدي جنود يوسف بن تاشفين أمير المرابطين. وابن عبدون اسمه الحقيقي عبد المجيد ويناديه عبد الواحد المراكشي بالكاتب وذي الوزارتين، وكان ملتحقا بهذه الأسرة الحاكمة لسنين، فبهذه العلاقة الطويلة الحامية قال فيهم قصيدة رائعة، فنال الخلود بها. ويمدح المراكشي هذه القصيدة، أساليبها ومحاسنها مدحا يليق بها. فحرارتها وأساليبها المهزِّئة للقلوب تؤثر في كل قلب مواس وتؤلمه ويجعله مضطربا. وهذه القصيدة مشهورة باسم "قصيدة البشامة" وشرحه باسم "طوق الحمامة". وكتب غير ابن بدرون شرحا لهذه القصيدة. وجدير بالذكر هنا أن ابن عبدون قال هذه القصيدة في الربع الأخير للقرن الخامس الهجري، وكتب ابن بدرون شرحه في النصف الأخير من القرن السادس الهجري أو في بداية القرن السابع الهجري. وانهارت دولة غرناطة في نهاية القرن التاسع الهجري من أيدي المهاجمين المسيحيين وخربت ودمرت فأنى لابن عبدون يرثي سقطوها في القرن الخامس الهجري؟! فيقارن إقبال شأن الحيدر (رض) بمرحب وعنترة ومقاومته أمامه بالشجاعة والبطولة في بيت له: إنما الهيجاء ليست بالجديد وكذا يعلم ذو بأس شديد وترجم هذا البيت بهذه الكلمات أيضا: ليست الهيجاء جديدة وليست أيدي المخاصمين جديدة وإنما هي فطرة أسدية وفطرة مرحبية وفطرة عنترية ولكننا لا نعرف من ذكر مرحب وعنترة في بيته إلا أن الشاعر (إقبال) يعرف بعض بطولات هذين الشجاعين. ومن الصعب جدا أن يعرف القارئ التوارد في شعره من شعر شعراء العرب، ولم أجد في ديوانه "رنين الجرس" إلا شعرا واحدا يمكن أن يفهم فيه الإنسان التوارد منه، يقول إقبال: شَعْرُ لَيْلَى وَهُوَ جُنْحٌ مِنْ ظَلاَمْ لَفُـفَ الدَّارَ لَكِـنْ بِالتَّمَـامِ ونجد نفس الفكرة عند شاعر عربي يقول في بيت له: صدغ الحبيب وحالي كـلاهما كالليـالي الديوان "أسرار إثبات الذات" الذي يقدم فيه إقبال معيارا خاصا لتقدير الشعر والأدب، يحث فيه على الرجوع إلى العربية، ويذكر فيه قول الشيخ حسام الحق ضياء الدين حيث قال: "أمسيت كرديا وأصبحت عربيا". يقول إقبال في الديوان "رموز نفي الذات" في بيت له: محفل الأيام منا يبسم ختم الرسل بنا والأمم فما جاء هذا البيت إلا من بيت لقصيدة البوصيري: لما دعى الله داعينا لطاعتــه بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم يقول إقبال في نهاية الديوان "رموز نفي الذات" داعيا للشيخ البوصيري أمام رسول الله —رحمة للعالمين— في بيت له: واهبي عود سليمى كرما والبــوصيري بــردا كرمـــا توفي البوصيري في القرن السابع الهجري بمصر، وموطنه الأصلي "بوصير" فينتسب إليه ويقال له بوصيري. فمرض بمرض الشلل وأصبح عاجزا من الحركة، وفي أثناء هذا المرض قال قصيدة في شأن رسول الله —عليه الصلاة والسلام—، ونال منه بردة أثناء نومه وشفي ببركتها من مرضه. وهذه القصيدة مشهورة باسم "قصيدة البردة" يقرأها المسلمون ويغنونها بالرغبة والشوق ملتمسين منها البركة. ويعرف شهرتها وقيمتها وأهميتها عند المسلمين بكثرة شروحها. وكثير من الشعراء قالوا قصائد اتباعا للبوصيري، ومثاله الرائع في أيامنا هذه "قصيدة نهج البردة" لملك الشعراء أحمد شوقي المصري. وصنف شيخ الأزهر الأسبق سليم البشري كتابا في شرح هذه القصيدة. الشاعر الجاهلي الحكيم زهير كان ابنه كعب من الشعراء العرب الكبار وكان يخالف النبي —صلى الله عليه وسلم— لمدة من الزمن، فعندما رأى بعد فتح مكة أنه لا بد من الاستسلام، أسلم، وجاء إلى المدينة وكان ملثما فقام أمام رسول الله –صلى الله عليه وسلم" يمدحه بقصيدة سمي فيما بعد بقصيدة "بانت سعاد" وهي قصيدة البردة الحقيقية!، واشتهرت في الأدب الإسلامي، فشبه فيها الشاعر رسول الله بالمهند المسلول، حيث قال: سيف من سيوف الهند مسلول ويقول إقبال مشيرا إلى نفس القصة حيث يقول: كعب الشاعر في خير العبـاد أنشد المدحة من بانت سعـاد نــظم الدر منيرا في ثنــاه من سيوف الهند سيفا قد دعاه من على الأفلاك فيه رفعــة لـم ترقه لبــلاد نسبــة قال: سيف من سيوف الله قل يا نصير الحق زورا لا تقــل فمنح رسول الله كعب بن زهير رداءا تكريما له، يقال عنها أن معاوية بن أبي سفيان اشتراها منه، فبقيت عند الخلفاء الأمويين لنيل البركة منها. والديوان "رسالة المشرق" رد على جوئته فلذا لا يوجد فيه ذكر للشعراء العرب. أما في ديوانه "روضة الأسرار" فيأتي بمصراع الأول من شعر منسوب إلى الخليفة الأموي الثاني يزيد بن معاوية، أثناء أشعار غزله، حيث قال يزيد: أنا المسموم وما عندي بترياق ولا راقي أدر كأسا وناولها ألا يا أيها الساقـي والمصراع الثاني من هذا الشعر ذكره الشاعر الخواجا حافظ الشيرازي في الغزل الأول لديوانه بتغيير بسيط في كلماته فقال: ألا يا أيها الساقي أدر كأسا وناولها قد اعترض بعض الناس عليه بأنه قد استعار شعرا من شخص مثل يزيد، فرد عليهم الآخرون حماية للشاعر حافظ بأنه إن كان كلبا يجري بلؤلؤة فمن من الناس لا يجري خلفه طالبا منه اللؤلؤة. فيأتي إقبال بشعر في "روضة الأسرار" غير مبال بمثل هذه الانتقادات التافهة، ويقول: "القلب يصيح وينادي أنا المسموم، أنا المسموم، والعقل يقول ما عندي بترياق ولا راق" ميرزا محمد بن عبد الوهاب القزويني الباحث الإيراني الكبير في إيران الجديدة ينكر انتساب هذا البيت إلى يزيد. وعلى كل هذا الشعر —وإن كان قاله يزيد أو غيره— يستحق باهتمام من قبل الشاعرين العظيمين من أمثال حافظ وإقبال واستخدامهما كلماته في أشعارهما. يأتي إقبال بمدح رسول الله —صلى الله عليه وسلم— في ديوانه "رسالة الخلود" على لسان أكبر أعدائه أبي جهل بأساليب بليغة مؤثرة، يقول أبو جهل نائحا على خيبته وذلته وعلى نجاح رسول الله في مهمته وينادي أشعر شعراء الجاهليين؛ زهير بن أبي سلمى ويلتمسه أن يخرج من قبره ويعاونه. يقول إقبال: "عجبا لعقلاء العرب هل عميت عيونهم، فلتهب يا زهير من قبرك، ولتحطم بشعرك البليغ أثر هذا الكلام الذي يسميه محمد "صوت جبريل" (أي: القرآن الكريم)" ويشتهر زهير ابن أبي سلمى لأفكاره الحكيمة، ووصفه صاحب "مقامات الهمداني" في "المقامة القريضية" بهذه الكلمات: يذيب الشعر والشعر يذيبه، ويدعو القول والسحر يجيبه وابنه زهير قد مر ذكره. والشاعرة المشهورة الخنساء كانت من نفس القبيلة. ويأتي إقبال في بيان نوحة أبي جهل بقطعة من شعر امرئ القيس الشاعر الجاهلي " إن كنت أزمعت الفراق". يقول إقبال: "وإن كان لا بد من الرحيل، فلا تعجلا وأمهلانا إن كنتما أزمعتما الفراق" وامرؤ القيس هذا هو الذي ذكره إقبال في مقال له باسم "التعليق الأدبي للرسول صلى الله عليه وسلم" مشيرا إلى القول المنسوب إليه (ص) عنه "أنه أشعر الشعراء وقائدهم إلى النار". رأى إقبال هذا القول ذا أهمية كبيرة فلذا يذكره في مقدمة "مرقع تشغتائي" الذي عرضه أمام الهيئة الأدبية بكابل (أفغانستان). وأما شعر امرئ القيس الذي اقتبس منه إقبال في بيته فهو: أفـاطم مهلا بعض هذا التـدلل وإن كنت أزمعت صرمي فأجملي وأما النسخة التي كانت أمامه كان فيها "وإن كنت أزمعت الفراق فأمهلي". ديوانه "جناح جبريل" فيه جزء من المنظومات التي نظمها وعبر فيها عن شعوره حين مشاهدته للآثار الإسلامية في الأندلس، البقعة التي كانت مركزا للحضارة الإسلامية. وعندما فكر في تاريخ الأندلس وفتحها، تأثر بها وأصبح هائما، وهذا الهيام يظهر تماما في منظومته باسم "مسجد قرطبة". وطبعا ينتقل فكر الشاعر إلى عبد الرحمن الأول الذي كان فوزه مثالا رائعا لعلو العزيمة والثبات والشجاعة والجرأة والتدبر. فينجو هذا الأموي بنفسه وبعبده الوفي المخلص من أيدي العباسيين الذين كانوا لا يدعون حيلة من القبض على كل أموي. ومن ثم يتقدم نحو الأندلس ويتملك تاجها وعرش ملكها، ويؤسس بناء أسرة جعلت قرطبة يتحدى بغداد في بنائها وجمالها وعظمتها. ففي ما بعد من الأيام كان عبد الرحمن يتنـزه في حديقته فرأى النخلة الوحيدة التي كان استوردها من الشام وزرعها في تلك الحديقة، تذكر وطنه وأحباءه وأقاربه فخاطب تلك النخلة منشدا قصة غربته في أسلوب يهز القلوب، فقال: تبدت لنا وسط الرصافة نخلــة تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل فقلت شبيهي في التغرب والنــوى وطول اكتسابي عن بني وعن أهلي نشأتِ بأرض أنتِ فيها غريبــة فمثلك في الأقصى والمنتأى مثلـي سقتك غوادي المزن في المنتأى الذي يصح ويستمري المساكين بالوبـل وعندما ترجم إقبال هذه الأشعار إلى الأردية ذكر معها "أنها من أبيات عبد الرحمن الأول المذكورة في تاريخ المقري. والنخلة المذكورة فيها هي تلك النخلة التي زرعت في مدينة الزهراء." وجدير بالذكر هنا أن الذي وضع الحجر الأساسي لمدينة الزهراء هو عبد الرحمن الثالث ونخلة عبد الرحمن الأول لم تكن فيها وإنما كانت في قصره الذي بناه!! وهناك منظومة أخرى بعنوان "صيحة المعتمد في السجن". فذكر إقبال في الحواشي "كان المعتمد ملكا لإشبيلية وكان شاعرا عربيا، ترجم كثيرا من منظوماته إلى الإنجليزية وطبعت بعنوان "سلسلة الحكمة الشرقية" وفي القرن الحادي عشر الميلادي أصبحت قرطبة عاصمة الإقليم بدل أن تكون عاصمة الدولة الأموية كلها بعد انهيار الحكم الأموي في الأقاليم الأخرى مثل إشبيلية وبطليوس وطليطلة، وقامت فيها نُظم الحكم الذاتي. وأقوى الحكام فيها كانت أسرة بني عباد وخاصة الوالي محمد بن عباد أحد ولاتها الذي لا يزال معروفا في صفحات التاريخ بلقب المعتمد على الله، وكان وحيدا من حكام أسبانيا الذي نالت شهرته الآفاق في الضيافة والسخاء والشغف بالعلم والأدب. وكان مجلسه دائما حافلا بالشعراء والأدباء. وابن عمار وابن زيدون الشاعران كانا ممن يزينون مجلسه. وزوجته اعتماد كانت صاحبة الذوق الأدبي والشعري ولهذا الذوق نالت القرب من القصر الملكي. وعهد المعتمد كان فاخرا رائعا جدا حتى قيل عنه في موسوعة الإسلام أن عهده كان مثل عهد الملك عبد الرحمن الثالث، والحكم الثاني، والحاجب المنصور. ومن جهة أخرى قضى أيام إدباره بالعزيمة والصبر وعلو همته فالملكة وبناته كن يغزلن القطن لقوتهن. وهذه المصيبة التي حلت بهذه الأسرة كانت من كسب أيديهم. فإنه عندما رأى أيام حكمه الإزعاج من جيرانه المسيحيين طلب المساعدة من أمير المغرب يوسف بن تاشفين، فهاجم أمير المرابطين هذا على أعداء المعتمد، وهزمهم أشد الهزيمة، ولكنه عندما رأى شأن إشبيلية وبهاءها طمع فيها، وبعد مدة قصيرة هجم على إشبيلية واستولى عليها، وأرسل المعتمد إلى المغرب أسيرا. يمكن لنا أن نقدر شهرته والإعجاب به من المؤرخين يذكرونه باحترام وإجلال ويحسنونه. كان المعتمد شاعرا عاليا فعبر عن حسرته وألمه وهمومه تعبيرا لاعجا يحرق القلوب. يذكر عن أيام أسره؛ أنه رأى الناس يخرجون لصلاة الاستسقاء، فلما شاهد هذا الجم الغفير اهتز قلبه وصار ينشد مرتجلا أبيات يذكر فيها أنه يقدم إليهم أمطار دموعه وسيولها ردا على طلبهم المطر، ولكنهم يعتذرون من قبولها ويرفضون هذا المطر بحجة أن هذه الأمطار مياه دامية وسيول مضرجة بالدم. كتب إقبال عن أبي العلاء المعري الشاعر المعروف منظومة في ديوانه "جناح جبريل". فكان أبو العلاء شاعرا نابغا رغم فقد بصره وكان ذا بصيرة عديمة المثال، واستعداد كبير في الحفظ، توفي في القرن السادس الهجري. و"رسالة الغفران" إحدى مصنفاته بلغت أوج الكمال في التخيل الشعري. يقول أحد مستشرقي أسبانيا أن ما قاله دانته ألباري في مصنفه "الكوميديا الإلهية" أخذ من فكرة أبي العلاء المعري. فإنه يسافر في "رسالة الغفران" في نزهة إلى الفردوس ويلتقي هناك مع شخصيات مختلفة. وكذلك طار تخيله في بيان بعض نكت النحو العربي إلى سماء أخرى، فذكر في رسالته "الملائكة" أنه إذا جاءه ملك الموت لينـزع منه الروح أصبح يناقش معه في كلمة الملك والملائكة، فيأتي من كلمة إلى كلمة ببحث جديد حيث يشغل ذهن القارئ بأمر يريده بمهارة تامة. وكذلك له ديوانان آخران باسم "لزوميات" و"سقط الزند". يذكر ناصر خسرو الشاعر الإيراني المشهور والسائح ومبلغ الإسماعيلية في ذكريات سفره عن موطن المعري "معرة النعمان" بالشام كأنه رئيس تلك البلدة. ويذكر كتابه "الفصول والغايات" التي كتبه —حسب حكاية بعض الناس— ردا على تحدي القرآن الكريم بالإتيان بمثله. وكتب عن أبي العلاء في الشرق والغرب كثيرا. وصنف الأستاذ عبد العزيز الميمني —أحد أساتذة جامعة بنجاب بلاهور وجامعة علي كره— كتابا قيما في حياة أبي العلاء المعري ومآثره باسم أبو العلاء وما إليه . وكان أبو العلاء يرغب عن أكل اللحم. فهناك مراسلة في هذا الأمر تمت بينه وبين المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي العالم الإسماعيلي المصري، وتم طبعه. يذكر إقبال في منظومة له مبينا قصته مع صاحب له أرسل إليه دراجا مشويا هدية، فبدل أن يأكله بدأ يخاطبه بقوله أنه لماذا صار إلى هذا المصير، ورد بنفسه على سؤاله بأن هذا الموت المفاجئ جزاء الضعف والوهن. لم يترك أبو العلاء أكل اللحم فقط ولكنه ترك أكثر ملذات الدنيا، ولم تكن تجذبه أي ملذة منها، فإنه لم يتزوج قط بل أوصى أن يكتب على قبره بعد موته هذا الشعر: هذا ما جناه أبي عليَّ وما جنيت على أحد منظومتا إقبال "والآن ماذا نصنع يا أمم الشرق" و"المسافر" لا نجد فيهما ذكرا للشعراء العرب وكذلك في ديوانه "ضرب الكليم". وأما الديوان "هدية الحجاز" —الذي طبع بعد وفاة العلامة إقبال— فهو مهم جدا لنا بالنسبة للموضوع المنشود؛ فإقبال يتقدم فيه شوقا إلى أن يحضر مجلس الحق سبحانه وتعالى منشدا بيتا من قصيدة ابن كلثوم مع ما زاد فيه من عنده. يقول ابن كلثوم: صبنت الكأس عنا أم عمرو وكان الكأس مجراها اليمينا وهذا ما قاله عمرو بن كلثوم في أمه ليلى، حاولت أم ملك الحيرة عمرو بن هند أن تستخدمها، فأبت وحسبتها ذلا لها ولقبيلتها وصاحت تقول "يا ذل تغلب" وكان ابنها عمرو بن كلثوم جالسا عند الملك فقتله حالا دون أن يستفسر السبب. ونقل مولانا شبلي (رح) شعرين من نفس القصيدة في الجزء الخامس لـ"شعر العجم" وهما: إذا بلغ الفطـام لنا صبـي تخر له الجبابر ساجدينــا ألا لا يجهلن أحـد علينـا فنجهل فوق جهل الجاهلينا وهناك مقولة عربية حكيمة "الجمل لا يعرف الحق إلا عند الزلق" فترجمه إقبال إلى الفارسية في ديوانه "هدية الحجاز" بهذه الكلمات: قال البعـير لأبيه في الصحــــراء لا أرى الله الكائن في كـل مكــان قـال الأب: يا بني حين تزل الأقدام فالجمل يعرف نفسه، ويعرفه الله أيضا أما الأشعار التي خاطب فيها إقبال الشعراء العرب فهي مهمة جدا من حيث الشعر والأدب. فإذا قرأها الإنسان وأمعن النظر فيها عرف —إلى حد ما— العقدة وحلها أنه لماذا لم يستفد من منابع شعراء العرب الحقيقية رغم كونه مادحا لهم ومولعا بشعرهم. ولكن الأنسب —قبل أن نتكلم فيها— أن نلقي نظرة على مقال له باسم "التعليق الأدبي من رسول الله —صلى الله عليه وسلم". فقدم إقبال في هذا المقال وجهة نظر رسول الله (ص) —كمعلق أدبي— حول شعراء الجاهلية؛ امرئ القيس وعنترة، وعبر عن شعوره (ص) عنهما. فامرؤ القيس في نظره "أشعر الشعراء وقائدهم إلى النار"، وتوضيح ذلك —في رأي إقبال— يوجد في موضوع مهم لشعر امرئ القيس، ألا وهو البكاء على فراق الحبيبة وذكرياتها في أطلال خربة موحشة ومثل ذلك. ونرى مقارنا بذلك عنترة الذي عبر رسول الله (ص) عن اشتياقه في لقائه عندما سمع شعره حيث قال عنترة: ولقد أبيت على الطوى وأظله حـتى أنال كريم المأكــل فحاول إقبال أن يأتي بنتيجتين مهمتين من أقوال رسول الله (ص) فيهما، الأولى: أن محاسن الصنائع والبدائع ليست من محاسن الحياة، والثانية: أن الفن تابع للحياة. وهناك أقوال أخرى لرسول الله (ص) عن الشعر والشعراء توجد في كتب الأدب العربي فلذا لا ينبغي أن ننحصر في الاثنين منها فقط. وهناك شعران آخران لعنترة لم تصلا إقبال وإلا كان أعجب بهما يقينا هذا المعبر عن إثبات الذات. قال عنترة: لا تسقني ماء الحياة بذلـة بل فاسقني بالعز كأس الحنظل مـاء الحياة بذلة كجهنم وجهنم بالعز أطيب منـزل وكذلك ما عبر عنه شعراء الحماسة من كرامة النفس والإباء بالطبع كان جديرا أن يتأثر منه إقبال ولكنه لم ينتبه إلى هذه المجموعة، فلنحاول أن نرد على هذا السؤال في الأسطر التالية. إقبال كان قد تأثر بالسحر الأدبي للزعماء الإيرانيين في الأدب حتى أنه لم يستطع أن ينجو من هذا السحر إلى آخر لحظة. فهذا التسحر كان سببا رئيسيا لعدم التفاته إلى الشعر العربي. ونزارة ميادين العجم وطراوتها جذبتاه إليهما، وسكن في قلبه دوام خضرتها ونضرتها وتلونها، ووفر له أسباب استمتاع القلب والنظر. والمعارف العجمية قد أخذت على قلب إقبال شديدا وإلى هذه الدرجة أنه —رغم سفره المستهام إلى بلاط الرسالة ومجلس الرسول وقطع الصحارى في هذا السفر— يغني أشعار العراقي والجامي العجميين. ولكنه يشارك الحادي في حدائه وإن كان لا يعرف أسلوبها العربي. يقول: وأقـرأ تارة شعر العراقـي وأحيانا من الجامي احتراقي أبـين لحون أعراب ولحـن لحادي ناقتي بعض اتفاق ولأن إقبال اختار لشعره قوالب الأردية والفارسية، ولم يستطع أن يستميل إلى اللغة العربية فإنه يعتذر مرارا لاختياره قالبا عجميا بدلا من القالب العربي، وإنه يريد أن يؤكد لقارئه أنه إن كان يغني نغمات هندية ولكنه يغني باللحن العربي، وإن كانت معازفه عجمية ولكن صوته عربي. لي لحون ظلمتها لـي العجــم لي وفـاء عربي لي نغــــم هي للعرب وغيـر يشربــون ومن الشرب تراهم يخجـلون وفي الأصل نداءه شيرازي ولكن الروح الذي يتحرك خلفه عربي حقا كما صرح بذلك في "رسالة الشرق" حيث قال: جسمي كله من أرض كشمير كان إقبال يحث على العربية وكان مراده منها العربية المتحلى بحلي الإسلام والمصبوغة بصبغته. فهناك فرق واضح بين تصور الحياة الجاهلي وتصور الحياة الإسلامي، ومن أدرى من إقبال بمعرفة هذا الفرق. وإن للمروءة العربية خلق خاصة بها؛ مثل الشجاعة والسخاء وإكرام الضيف، ولكن العرب مع هذه الخلق الحسنة مصابين بمرض خلقي يسبب لهم الإدبار والبؤس دائما، ألا وهو العصبية التي خمدت لمدة من الزمن تحت سيطرة الإسلام ولكنها ظهرت فيما بعد مندفعة مع كل الأهوال. فالعرب وإن كانوا في الشام أو العراق أو الأندلس لوثوا أنفسهم وثيابهم بتلك العصبية فهي نفسها أكبر سبب بؤسهم وخرابهم. وأما الإسلام فيربط بني آدم في العلاقة الأخوية والإنسانية مخالفا من العصبية النسبية أو القبلية أو الشعبية أو البلدية. وهذا هو الفرق بين المبدأ الأخلاقي الجاهلي وتصور الحياة الإسلامي. فربما هذا الفرق أحد أسباب أن إقبال لم يلتفت إلى الشعراء العرب كثيرا رغم كثرة وجود آثار الحياة في البيئة الصحراوية العربية. وعندما يخاطب إقبال الشعراء العرب يعترف فيهم بالعاطفة والحنان والحرارة والجنون، ولكنه يريد من شاعرهم أن يترك التصوير والتمثيل في شعره ويغوص في أعماق الروح والقلوب وأغوارهما، وينقل إلى المسلم تلك الحرارة التي توجد في قلبه ويلقنه السير في صحراء الحرم كي يدرك سعة قلبه ويحسها. ويخبر إقبال الشاعر العربي بأسلوب واضح غير مبهم، أنه من الممكن أن يحل بنفسه في حياته الصبح المشرق بالنور القرآني محل الليلة الظلماء. يقول: وقـل للشاعر العربي عنــي لياقوت الشفاه البخس مـني قبست النور بالقـرآن حتـى جعلت الليل لي فجـرا يغنـي لتحفظ ما بصلصـال لديكـا فكم من نشوة حامت عليـكا لـهذا أو لذاك الـدن خلـو وقلبك قدم الصهبا إليــك وسر مثلي بصحراء الحمى سـر لأنك عمق ذاتك قد تقـــدر الشعر بين الحكمة والفن كما يراه ابن العربي للأستاذ عبد الإله بنعرفة يعرف نقاد الأدب العربي قديما الشعر بأنه عبارة عن "كلام موزون مقفى". وبعضهم ألغى لفظ "مقفى"، واحتجوا بأن القافية ليست شرطا في الشعر لأنها ختم يعلم بانتهاء هذا الكلام الموزون، وعليه فهي أمر عارض. وجماع الأمر أن ما يجعل من الكلام شعرا هو الوزن الذي قصد إليه ابتداء. وعليه فالقصدية إلى الوزن لها دور في تحقيق الشعرية بحسب هذا الرأي. فما هو هذا الوزن؟ هل له نسبة إلى المعني أم إلى اللفظ؟ أم أن الأمر خارج عنهما مستقل بذاته؟ وإذا كان الوزن معيارا للشعرية، فلماذا ألزموا أن البيت الواحد لا يعد شعرا، وأن أقل الشعر بيتان بل كما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: من قال ثلاثة أبيات فهو شاعر. وفي تخصيص الثلاثة إفادة إلى أن صاحبها عمد قصدا إلى نظم الشعر لا كما يحدث اتفاقا في المخاطبات والمعاملات بين الناس حيث تجد كلاما موزونا يمكن جريانه على أعاريض الشعر المعروفة. فالشعر عندهم، إذن، هو القول الموزون وزنا عن قصد من القائل. ولهذا سميت القطعة الشعرية قصيدة إخبارا عن هذا المعني. اشتقاق الشعر: الشعر لغة هو العلم ولهذا تقول العرب ليت شعري أي ليتني علمت. وجاء في التنـزيل: ﴿وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون﴾ أي وما يدريكم. والشعر له علاقة بالشعر لأنه شعور دقيق فعلى هذا الأساس استعير الشعر للعلم الدقيق، وسمي الشاعر بذلك لدقته وفطنته. والمشاعر الحواس، وبناء على هذا فالشعر علم دقيق بالحواس التي هي منافذ المعلومات، فهو علم حسي. كما سميت مناسك الحج مشاعر لإدراكها بالحواس، وكذا لإعلام الهدي خلالها الذي يشعر بشعيرة يدمي بها. كما سمي اللباس الذي يلي جلد الإنسان بالشعار لملامسته لشعر جلده. ومن خلال هذه الدلالات يتضح أن الشعر مخصوص بالعلم الحسي الدقيق. فكل علم هو شعر، ولكن غلب منظوم القول عليه كما غلب الفقه على علم الشرع، وغلب النجم على الثريا. وقد يطلق الشعر على النبات والشجر لدقته وكثافته وتشعبه. ولهذا كانت المعرفة الناتجة عن الشعور والمشاعر دقيقة وكثيفة ومتشعبة ولكنها معرفة ظاهرة سطحية ومعرضة للتعرية. فهي معرفة فرعية مشهودة وليست أصلية غيبية وإن تلونت بالسواد فليس السواد غيبا ولا أصلا بل إن السواد يرجع إلى أصله الأبيض كما يشتعل رأس الإنسان شيبا بعدما كان معتما بالسواد. تقول العرب في المثل: "هم الشعار دون الدثار"، وجاء في حديث الأنصار: " أنتم الشعار والناس الدثار" يصفهم بالمودة والقرب والبطانة والخاصة. فالذي يستر جلد الإنسان وشعره هو الشعار حيث ينقل الظاهر باطنا والشهادة غيبا، فيكسو ما ظهر أصلا بما خفي فرعا. وهكذا يلحق الشعر بالأصل. وإذا كان الشعار مؤذنا بالقرب والخصوصية فهو منذر أيضا بالبعد والعمومية لنسبته بالنجاسة والقاذورات. فأول ما يتلقي فضلات الجسم الشعار لأنه أول ما يباشر الجسد. ولهذا قالت السيدة عائشة رضي الله عنها عن النبي عليه السلام: "إنه كان لا يصلي في شعرنا ولا في لحفنا " مخافة أن يكون أصابها شيء من دم الحيض. ولهذا السبب جاء ذم الشعر في التنـزيل لأنه علم خلط بنجاسة. كما أن للشعر علامة ولهذا يتخذ الناس الشعارات إي العلامات فدل ذلك على الظهور. وسميت مشاعر الحج بذلك لكونها علامات له، كما أن الرجل يشعر البدنة أي يعلمها وذلك بأن يطعنها في سنامها حتى يظهر الدم وهو نجس. فلا تهدي إلا بعد استفراغها من نجاستها أي دمها. كما أن الشعر لا يهدي إلا بعد استفراغه من نجاسته العارضة. ولهذا لم يعلق على أستار الكعبة إلا المعلقات، وقد سمى الشيخ الأكبر شرحه على ديوانه الشعري " ذخائر الأعلاق" شرح ترجمان الأشواق. والإشعار يفيد القتل أيضا لأن العرب كانت تقول للملوك إذا قتلوا " أشعروا"، وتقول للعامة "قتلوا". وكانت دية المشعرة أي الملوك في الجاهلية ألف بعير. ويروى في مقتل عمر رضي الله عنه أن رجلا رمى جمرة فأصابته فسال دمه، فصاح رجل "أشعر أمير المؤمنين" فقال أعرابي من بني لهب "لتقتلن أمير المؤمنين" فقتل في تلك السنة. ولهب قبيلة يمنية عرفت بالزجر والعيافة. وما يهمنا هنا هو هذا الفرق بين الإشعار والقتل في التمييز بين ما هو كريم ووضيع لعلاقة كل ذلك بالشعر. وهناك الشعير أي ذلك النوع من الحبوب، سمي بذلك لأن سنابله وحباته تعلوها إبر دقيقة مثل الشعر ولهذا سميت دبابة الدواب الشعراء لأن لها إبرة تلسع بها. وهذا اللسع هو ما يعرف في الشعر بالهجاء. فها نحن نري أن الشعر ينطوي على هذه الجملة من المعاني والتي لا تبدو إلا بعد التحليل، ويمكن استخراج جل أغراض الشعر من مدح وفخر ووصف ونسيب ورثاء وغيرها من المعاني الكمونية والتي تحققها الأسرة اللغوية لمادة "شعر". ماهية الشعر: رأينا أن الشعر مبني على الوزن بقصد يرومه الشاعر. فهل هذا التعريف خاص بالشعر العربي أم هو تعريف إنساني؟ وبعبارة أخرى هل الشعر مقولة كلية تتضايف في كل الألسن والذهنيات وتبقى على كليتها أم أنها تتلون وتصطبغ بالجوار اللغوي والثقافي الذي استضافها؟ وعليه لا يمكن الحديث إلا عن شعر عربي بالتعيين أو فارسي أو هندي أو غير ذلك؟ إن الأخذ بالتعريف الذي مفاده أن الشعر كلام موزون مقفى قصد إليه ابتداء لا يمكننا من بناء تصور إنساني للشعر وماهيته لأنه يحصره في إطار الوزن والقافية. ولا شك أن شعر أمم أخرى لا يخضع لضابط الكلام والوزن والقصد إليه، والقافية. فإذا نحن اقتصرنا مثلا على ضابط الكلام، فنحن نعلم أن حده هو اللفظ كما يقول ابن مالك: كلامنا لفظ مفيد كاستقم اسم وفعل ثم حرف الكلم فما لا فائدة فيه لا يعتبر شعرا، وهناك من الشواهد حتى عند العرب، ما يقوم على عكس هذه الدعوي. أما في وقتنا الحاضر فقد أصبح عدم الفائدة عند البعض هو منتهى الشعر. وسؤال الفائدة لديهم لا علاقة له بالشعرية. بل إن شعارير اللحظة بادعائهم تحطيم النموذج أسرعوا في مواراة الشعر تحت التراب. فأنت تسمع جعجعة ولا تري طحنا، كلمات بعضها فوق بعض أو هي ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج المرء يده لم يكد يراها. ولعمري إنني لمستحضر لقول القائل: سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمــار بل إن النظرية الشعرية في الغرب حاليا مبنية على عدم الإكتراث بالقاريء إطلاقا وإن همَّ الشاعر أن يرصف الكلمات وعشرات النقط والرقوم دون ضابط محدد منساقا أمام طفرة هوسه. فهناك نوع يسمى "الشعر الخالص أو المحض" مبني على وزن محدد ولا معني له. فإذا ما رجعنا إلى كتب ذلك القسيس هنري بريمون وخصوصا في كتابه "الشعر الخالص" (1965) و"صلاة وشعر" (1926 و "راسين وفاليري" (1930 نراه يعرف الشعر الخالص بأنه إلهي ويقصد به أن يطمح الشعر لأن يصير مثل موسيقى للصمت بدل ضجيج الألفاظ. هذا الشعر الخالص فيه "نجاسة ميتافيزيقية" على حد تعبيره. تعامل الشعراء الغربيون مع هذا التصور الغريب بشيء من الرغبة والرهبة، أو لنقل بنوع من الغزل والوجل كما يظهر من رسالة بول كلوديل للقسيس بريمون حول الإيحاء الشعري. فالشعر في هذا التصور صلاة لا يعلم المصلي مضمونها ولا ترنيمتها بل ليس لها إحرام ولا سلام. أي أنها بدون حدود ولا آداب ولا مراسيم. فالشاعر لا يستأذن في صلاته بل يلجها قبل أن يتطهر من رجسه ثم ينتهي منها وهولا يعلم ذلك! إن فتح هذا الباب أمام الشعر لم يكن ليؤدي إلا إلى احتضار الشعر دون مشعر المعني.! ثم إن أنصار قصيدة النثر، الذين يرفضون الوزن والقافية كحد فاصل بين الشعر والنثر، قد شطوا في هذه الدعوي حتى قارب الشعر أن يلفظ أنفاسه. لقد بدأت قصيدة النثر مع الرومانسيين، والحق ان الشعر قديما لم يمنع نفسه من ارتياد رباطات النثر السردية. فالشعر الوصفي والملحمي والتعليمي يفيدنا أن الشعر تناول حصون النثر المغلقة وأجاد في التعبير عن ذلك دون أن يفقد خصوصيته، ثم جاء رامبو و فيرلان اللذين شنا حملة على الشعر الكلاسيكي واتهماه بعقد تحالف مع النظام والمعيار الجمالي السائد مع أن الشعر بظنهما يجب أن يجهر بالحق ولوكان سوءا، ثم تحالفا بدورهما مع الفوضى والإنفكاك. أما مالا رميه، فأصبح النثر والشعر في عرفه رمية لقطعة نرد يأخذها كما هي لا نثر ولا شعر أو هو شعر ونثر في الآن نفسه. وبعبارة لا معنى للحدود. تلك، إذن، كانت رؤية الحداثة الغربية بإيجاز شديد للشعر والشعرية. ولنعد مجددا إلى الرؤية العربية للشعر، ولنتساءل هل هناك نظرية عربية شعرية؟ إن مثل هذا السؤال في حد ذاته قد يوحي بالإستفزاز. نعم هناك نظرية للشعر عند العرب وإن كانت تختفي أحيانا من شدة الظهور، لأن العرب ولجوا بالشعر كل الأغراض حتى صار التعبير الطبيعي عن الحياة بجميع مقوماتها. لقد كان الشعر في الجاهلية مفخرة العرب وكانت القبائل تفاخر بوجود شعراء منها، وبالمقابل كان العار والخزي يلحق القبيلة التي ليس لها شاعر ينافح عنها ويخلد ملاحمها وأيامها. إن الشعر الجاهلي دقيق جدا في وصفه وفي اقتناصه للمعاني الشاردة. وإن من يري تضاريس الجزيرة العربية وصحاريها، وهول تلك التضاريس ليدرك مدى انصهار تلك العوامل في الشعر الجاهلي بقوة ودقة، فاللغة ناتئة وحادة. إن لهيب الشمس لم يصهر صخور الجزيرة ولكن الشعر الجاهلي صهرها.قد قيل في هذا الشعر أنه يستعمل الغريب والشاذ والوحشي، وعليه صعلكة رجولية مفرطة. ولعمري هذه رمية بدون رام وعنوان للقطيعة التي حدثت في المجتمع العربي بالإنتقال من البداوة إلى الحضارة. فالشعر الجاهلي بدوي بدقته ورجولته ونجادته وقربه من الحياة. إنه قريب من حيوانات الصحراء ورمالها وصخورها ووديانها ووهادها، وهو متطلع ناظر متلمس لسمائها وسحبها وأنوائها. الشاعر الجاهلي شاعر يبصر ويسمع ويتقد نبضا وحياة، ولهذا كان شعره دقيقا دقة لم يدركها الحضريون فنعتوه بالغريب والوحشي. الشعر الجاهلي لم يكن يعرف القصيدة الغرضية بل يمزج الأغراض أو فلنقل الحياة فتثمر شعرا. لما نظر نقاد الأدب العربي للشعر وأسسوا نظرية شعرية ضحوا بهذه الخصوصية الكيماوية للشعر الجاهلي فطلعوا لنا بنموذج ذكره ابن قتيبة في القرن الثالث الهجري للقصيدة العربية: نسيب ثم رحيل فمدح. هذا هو القالب الذي ارتآي مؤرخوا الشعر ولا أقول منظروه لكي يكون النموذج الذي ينبغي احتذاؤه والسير على منواله. فأين الأغراض الأخرى إذن؟ بعدما كان الشاعر سيدا في قومه أصبح خديما وموظفا وصنيعة في يد مداحه. وصار المدح للساسة والأعيان هدف الشعراء. وهكذا ابتعد الشعر عن دقته وظهر النثر وتعددت اختصاصاته من سلطانيات وإخوانيات وخطب …. وزاحم الشعر وصرعه فيها بعدما كان الشعر يعبر عن كل شيء، بل لا تعبير إلا والشعر رهانه. لم يكن الشعر فنا من الفنون عند البدوي بل كان جوهر وجوده وأريج حريته وكرامته وشرفه. مع انتقال المجتمع العربي إلى التمدن صار الشعر فنا من الفنون. نموذج القصيدة الثلاثي الذي ساد لم يكن هو الوحيد بل وجدت نماذج أخرى لم يكتب لها النجاح. من ذلك محاولات الفلسفة الإسلامية إعطاء تعريف للشعرية يتمايز عما تعارف عليه النقاد. فعند الفارابي وابن سينا هناك تمييز واضح بين ما ينتجه العقل وما ينتجه الخيال. إلى جانب هذه الرؤية هناك رؤية أخرى أعمق منها لم تعرف إطلاقا حتى يومنا هذا ولم نجد أحدا تكلم عنها غير محي الدين بن العربي الحاتمي في مقدمة ديوانه الكبير الذي لا يزال مخطوطا "ديوان المعارف الإلهية" وسنعود إلى هذا بعد إكمال حديثنا عن الشعر الجاهلي والذي وصلنا في صيغة كاملة ونهائية مما يفيد أنه هناك مراحل أخرى سابقة لم يصلنا منها شيء. رأينا هذا الشعر يعبر عن حنين قوي ربما كان إلى هذه المراحل. كما أنه يغني ويترنم بأمجاد العرب وأيامهم ويعبق بالحياة بقوة الوصف والحفاظ عليها من الموت أو القتل الذي يتهدده في كل لمحة ونفس. فالوجود خيط رفيع والحياة رهيفة ناحلة. والشاعر يتماهى مع رهافة هذه الحياة ويتآخي مع الطبيعة ومع الأشياء والأحياء. يتكلم النقاد بعد هذا عن الشعر الأموي والعباسي وهي تقسيمات غير دقيقة. كان الشاعر فارسا في الجاهلية، فأصبح هجاءا أو مداحا في هذه العهود. ومع ذلك تطور الشعر وأخذت عناصر غير عربية تساهم في فتح آفاق الشعر العربي مثل أبي نواس والعباس بن الأحنف وأبي العتاهية. كما برزت ظاهرة الحب العذري العفيف في الشعر وكذا ظاهرة المجانين أو عقلاء المجانين إلى جانب الغزل السافر مع عمر بن أبي ربيعة. ومع ذلك فإننا نري أن الثقافة البدوية مازالت حاضرة في كلماتها وأوصافها رغم الانتقال إلى الحضارة والتمدن. وبلغ الشعر الذروة مع أبي تمام وابن الرومي وخصوصا المتنبئ. وبدأ يظهر أن الناس لم يعودوا يتلمسون إلا هذه الأسماء وأغراض هؤلاء الشعراء. وسرعان ما بدا أن هذه الطريق مسدودة وأنه من اللزوم البحث عن سبل أخرى تعود بالشعر إلى شرفه وقمة عطائه. كانت البداية مع الزهديات التي افتتحها أبو العتاهية وسرعان ما تلا ذلك التغني بالمحبة الإلهية عند رابعة العدوية. ويتوالى التعميق مع الحلاج وابن الفارض والنفزي وأبو العلاء المعري. هل الشعر فن أم حكمة؟ إن الجواب عن هذا السؤال يفترض مقدما أن نبين ما المقصود من الشعر؟ هل هو جنس الشعر أو أفراده؟ وبعبارة أخرى هل نعني بكلامنا عن الشعر ماهية دون الإلتفات إلى الأمثلة التي أبرزته في عالم الإمكان أم نصرف نظرنا عن عينه الثابتة إلى صوره في عالم الأكوان؟ وبعبارة أجلى هل ننظر إلى الشعر قبل تكوينه أم بعده؟ يبدو أن الشعر قد يحقق الحكمة بالنظر إلى عينه الثابتة وقد يهجرها واهما بالتعلق بصوره المتعددة في عالم المثال. لقد قال النبي عليه السلام بأن من الشعر لحكمة، وأتى بالتوكيد والتبعيض فدل على أن أصل الشعر وجوهره يكمن في إفادة الحكمة، ولهذا أتى بالتوكيد ثم لون هذا الحكم لما علم أن البعض يخرج عن أصل الشعر إلى فروعه، فيطرق فنونا من الكلام، فأتى بأداة التبعيض حتى يخرج الشعر الحكيم عن غيره. ونري أن هذا الحديث قد جمع القول وأجمله بخصوص الفرق بين الحكمة والفن. إن النظر إلى التمييز بين الحكمة والفن يمكن أن نرجع به إلى اصول الأشياء، قد يقول القائل ومعه الحق صوريا في ذلك، أن الشعر له علاقة بالفن أكثر مما له علاقة بالحكمة. وهذا حكم كمي وصوري، فهو كمي لأن جل النتاج الشعري يميل إلى أن يكون فنا، وهو صوري لأن الشعر من الشعر وهو كالشجر والنبات. والشعر هو نبات الجسم وشجره. فهناك مماثلة حقيقية بينهما لأن الإنسان أرض معمورة وعليها نبات ودواب. ولهذا لا يطرح الحاج وقت إحرامه عنه الشعر ودوابه الملازمة لبدنه. فأشبه الإنسان بذلك الأرض لأنه من تراب. ونحن نقول في وصف الشجرة بأنها فناء وفنواء وفي الغصن بأنه فنن إلى غير ذلك. فلزم الفن عالم النبات عموما، ونقول شعر فينان وامراة فنواء لأن شعرها كأفنان الشجر، وفي الحديث: "أهل الجنة مرد مكحلون أولوا أفانين" أي ذووا شعور. فعلى هذا الاعتبار يصح وصف الشعر بالفن من الناحية الكمية والصورية كما قلنا ولكن الذي يجب أن ننتبه له هو أن التفنين يطلق على التخليط والفنون على الأخلاط من الناس. فكل شعر فيه تخليط هو فن وهي خاصية الشعر المعاصر. أما عند انعدام التخليط فلا يصح أن نسمي الشعر بالفن. بل الأدهي من ذلك أن الذي يصح أن نطلق عليه الفن هو النثر، لأن النثر من التفريق والطرح أرضا. فدل على أن النثر يكون من أعلى إلى أسفل ولهذا سمي ما يطرح الإنسان من أنفه إلى الأرض بالنثارة والنثرة. والنثر يطلق على الشيء الكثير المتفرق، فنقول امراة نثور ونثر الكلام أي أكثره، وجاء في حديث ابن مسعود وحذيفة في القراءة: هذّا كهذِّ الشعر، ونثرا كنثر الدقل " أي يتساقط كالرطب اليابس من العذق إذا هز. فدل مرة أخرى على علاقة النثر بالفن من حيث أنهما من معجم نباتي، وأنهما يتعلقان بكل ما هو كثير ومتفرق ومتشعب وخارج من أصل معين. ويمكن أن نقول بأن الشعر يقوم على الاستدارة كما أن النثر يقوم على الإستقامة. ولهذا وصف الغصن بالفنن دلالة على الغصن المستتقيم. فالحركة في النثر مستقيمة، وفي الشعر دائرية. ولك أن تنظر مثلا إلى الشعر فأصله بصيلات مستديرة تحت الجلد يبرز عنها بعد حين. وكذلك الشعر فهو يقوم على الدور والإستدارة لأنه بيت الشاعر ومسكنه كما كانت الخيمة المحبوكة من الشعر بيت العربي وهي مدورة. وعليه فالشعر قرآن والنثر فرقان، أي أن الشعر إجمال وإجماع النثر تفصيل وتفريق. القصيدة بيت الشاعر وخيمته والنثر بيداؤه وصحراؤه. فالحافظ له من أفانين القول وفنون الناس خيمة من الشعر وبيت من الشعر. الحركة في الشعر إذن دائرية وهي أصل الحركات لأنها نقطة مكبرة سالت من القلم الأول عن المداد المطلق ثم صورت فتكسرت إلى مثنى ومثلث ومربع ومخمس ومسدس فرجعت إلى أصلها كما بدأت. فالبداية عين النهاية. فأصل الحرف نقطة سالت عن القلم الذي غمس في مداد دون الغيب وظهر بتلك الحروف إلى نور الوجود. فأول شكل كان حرف الألف لا يتصل بشيء والأشياء تتصل به. فبالمداد كان الإمداد. ثم اضطجعت تلك الألف فصارت باء فجيما فدالا إلى أن عادت ياء في الأخير، وهي ألف مخفوضة لانعطافها وعطفها على غيرها. وليس لغيرها عين سواها. فلا يوصف بالإستقامة إلا المنثور، أما المشعور فموصوف بالإستدارة. وعليه فالسؤال عن الشعر: هل هو حكمة أم فن يكمن أساسا في العلاقة والفرق بين النقطة وامتدادها أو بين السكون والحركة وإن شئت قلت بين الحركة الدائرية والحركة المستقيمة، هنا أصل المسألة وحلها. ومن جهة أخرى، فإن النثر كما قلنا نباتي لأنه صدور من بطون ولا يكون الصدور صفا إلا للنبات لأن انتقال الحركة من الاستدارة إلى الاستقامة هو انتقال من طور الجماد إلى طور النبات. فانظر مثلا إلى الجنين في بطن أمه في انعطافه وكروية وكذلك البذرة في جوف التربة وبعد ذلك تنجم البذور الإنسانية والنباتية مستقيمة. ولهذا جاء وصف الإنسان في القرآن مطابقا لهذه الحقيقة ﴿والله أنبتكم من الأرض نباتا﴾ (نوح: 17) أما الشعر فهو في أصله جوهر أي جماد، وهو أي الشعر إن كانت له نسبة مع النبات فبحكم فرعيته، فهذا حكم عليه بمقتضي عارض عرض له، وإلا فأصله الحاكم عليه هو الجمادية، ولهذا قلنا إنه يبحث عن جوهر الأشياء بل إنه الجوهر. ومن المعلوم أن الجواهر تقوم بذاتها على عكس العوارض التي تقوم بغيرها. ما هو موقف القرآن من الشعر، ولماذا ذم الشعر؟ وهل لغة القرآن شعرية أم نثرية؟ تلك بعض من الأسئلة التي سنواجهها. من المعلوم أن القرآن تحدث عن الشعر والشعراء. وكيف يمكن أن يصرف النظر عن ذلك والشعر ديوان العرب. بل إن هنالك سورة اسمها الشعراء مما يدل على أن للشعر أهمية كبري عند الشارع. هل الشعر هو هذا الكلام الموزون المقفى كما ورد به التعريف أم هو شيء آخر يجب البحث عنه؟ وكيف ذم القرآن الشعراء ونفي عن النبي عليه الصلاة والسلام وصف الشاعر؟ فهل في الشعر أمر يتعارض مع وظيفة النبوة والرسالة؟ إننا نعتقد جازمين أن الرسالة تتعارض جوهرا مع الشعر. ولا يدل ذلك على أن الشعر مذموم أصلا. ولكن الذي لم يتنبه له جل من تكلموا في هذا الموضوع هو كون الشعر محلا للرموز والألغاز والكنايات والإستعارات وضروب القول التي تخرج عن المعاني الواضحة. فصفة الغموض أو على الأقل الإبهام ملازمة للشعر على عكس الرسالة التي يطلب من الرسول فيها البيان. وهنا أصل المشكلة، فالرسول جاء مبلغا مبينا والذكر نزل عليه ليبين للناس ما أنزل عليه. فلو كان القرآن يتعمد إبهام الأحكام الشرعية لتعطلت الشريعة، وانعدم سبب إرسال الرسل، وإن كان القرآن مع كل هذا ليس عن سبب حتى لا يكون مفتقرا، بل هو قول وكلام قبل وجود السبب. ولكنه في حق المنـزل إليهم كان عن سبب لأن الرسول مبلغ عن ربه ويلزمه البيان في الوقت لكافة الناس. فالرسول مطالب بالجواب حينا لما يترتب على ذلك من الأحكام التي اقتضتها الشريعة، والبيان لا يتأخر عن وقته. الشعر محل الغموض والإبهام، ومن الملاحظ أن الإبهام هو الأصبع الذي يرمز إلى التوحيد وإلى صلاة الفجر التي هي بين الخيط الأسود والخيط الأبيض. ولذلك كانت مبهمة، فهناك الفجر الكاذب والفجر الصادق أو الفجر المستطير والفجر المستطيل. وزمان إمساك هذه الصلاة متعذر بداهة لأنه زمن برزخي ولأن البرازخ لها حظ من الصادر والوارد أو الطالع والغارب. ولذلك صعب التعرف على كل ما هو برزخي، فالحاضر برزخ بين الماضي والمستقبل، والإنسان البرزخي هو الكامل الذي له حظ من الحق والخلق ﴿مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان﴾. زمان الشعر ليلي وزمان النثر نهاري. الأول غيب والثاني شهادة. عنون الناس القصائد لأن الليل يحتاج إلى ضوء القمر فيعلم، أما النثر فأصلا لا عنوان عليه لأنه عنوان ذاته "إذا ظهر الصباح أطفأ القنديلا". ومن هنا الخطا الذي يقع فيه شعراء قصائد النثر حين يعنونون قصائدهم ودواوينهم. فالنثر أصلا يتعرض مع العنوان، وقصيدة النثر الذي هو التفريق ترفض الجمع. فما كان فرقانا كيف يصبح قرآنا؟ من أجل كل هذا كان وصف النثر بالفن ألزم وألصق به من وصف الشعر بذلك. والفن جمع فلا يعقل الفن إلا في جمعيته ولهذا نقول فنون النثر كما هي فنون الناس وأفنان الشجر قلنا أعلاه بأن الشعر قرآن والنثر فرقان لأن أساس الشعر هو في الجمع والجذب فحركته إلى الداخل: أما النثر فحركته إلى الخارج لأنه طرد للمعاني. يقول العربي: افتن الحمار بأتنه إذا أخذ في طردها وسوقها يمنة وشمالا وعلى استقامة وعلي غير استقامة. وهذا هو الفن لأنه انبعاث إلى خارج وتوسع وتصرف بدون إدراك مسبق للغاية، من هذا التوسع والصور على عكس الحركة الذاتية التي تفترض مبدئيا إدراك الغاية من تركيزها وتجميعها. ولهذا نري أن الشعر صنو الحكمة وأن الحكماء كانوا غالبا من الشعراء لأن الحكيم هو من يحكم القول ويحكم المعاني أي يلف بعضها ببعض ويجمعها ويربطها ويقيدها بدل أن يفرقها وينثرها كما ينثر الناثر ما خرج عنه. فانظر مثلا إلى معجم العروض والشعر تجده دائرا حول هذا الأحكام وربط المعاني والألفاظ. وثمرة الحكمة الحكم، فكل حاكم حكيم وليس كل حكيم حاكما. فالشريعة حاكمة علينا لأنها من معدن الحكمة. والحكمة هو وضع الأشياء موضعها. وللعلاقة بين الحكمة والحكم ورد في الحديث "إن من الشعر لحكمة" وفي رواية" إن من الشعر لحكما". ولا يشترط أن يكون الحاكم والحكيم خليفة، بل إن القاعدة هي الفصل بينهما وقد يجتمعان. وقد ورد أن "الخلافة في قريش والحكم في الأنصار" لأن الحكم ثمرة الحكمة وهي العلم والفقه. وكان أكثر الأنصار من الحكماء والفقهاء. أما علاقة الحكمة بالشعر، فقد رأينا أن العرب كانت ترجع إلى حكماء يحكمون بين الشعراء، وقد سموا بعض أشعارهم بذلك. فهذا الأعشى سمى القصيدة المحكمة بالحكيمة فقال: وغريبة تأتي الملوك حكيمة قد قلتها ليقال من ذا قالها والمحكم هو الذي لا اضطراب ولا اختلاف فيه، ومن هنا وصف القرآن بالمحكم والذكر الحكيم. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المحكم هو المفصل وهو الذي لم يقع فيه نسخ ولا متشابه. وهو غير صحيح لآن الأية حاكمة عليهم حيث ميزت بينهما: ﴿كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير﴾. فأتي بأداة التراخي لإفادة المغايرة بين الإحكام والتفصيل. فالأول إجمال والثاني تفصيل. ومن ذلك أن الإحكام والحكم منع. ولهذا جاءت الآيات بين أمر ونهي، وإن شئت قلت بين افعل أو لا تفعل. أما تفصيل ذلك فهو الوعد والوعيد. فالحكم والإحكام يفيد المنع ولهذا سمت العرب اللجام بالحكمة لأنها تمنع وترد الدابة عن الشرود. وجاء في الحديث: "ما من آدمي إلا وفي رأسه حكمة" أي وازع يمنعه عن ارتياد ما لا يليق. ولأجل ذلك سمي الحاكم باسمه لأنه يرد المظالم ويمنع الظالم. والحاكم إما عادل أو جائر وكلاهما ميل، إلا أن الأول ميل بالحق وللحق، والثاني ميل عن الحق وعلى الحق. والشاعر الحكيم والشعر المحكم هو بين هذين الميلين. فإما أن يعدل وإما أن يجور. فإن عدل فقد عدل بالقول عن حقيقة الأشياء وهو المسمى في البلاغة بالمجاز. أو أنه عدل بالعبارة إلى الإشارة، والإشارة بالعبارة. أما إذا جار فإنه هام وخرج عن الشعر إلى النثر وتتبع فنون القول في وديانها ﴿ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون﴾. والجائر الهائم يستر ويكفر ويميل حتى يعلق الأمور ﴿ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة﴾. أما العدل وإن كان ميلا فهو كما قلنا ميل بالحكم مع صاحب الحق. وهذا الميل هو عين الإستقامة لأن من الأمور ما لا تكون استقامته إلا في ميله ومنها العدل والمحبة. فالحاكم لا يكون إلا بين اثنين ولا بد أن يميل بالحكم لأحدهما فإن كان لصاحب الحق كان حكما مستقيما عدلا وإن كانت أخرى كان جائرا وقاسطا. وكل أمر بين أمرين هو ميل فإن مال بحق كان استقامة وإن عدل عنها كان ظالما. فهذا ميزان خطير ودقيق لأن في الميل عين العدل والاستقامة. وقد ورد أن النبي قال "شيبتني هود وأخواتها" ولم يبين علة ذلك الشيب حتى سأله من رآه في المنام عن ذلك، فأخبره بأن الأمر راجع إلى أن هود فيها آية من العتاب الإلهي لحبيبه ﴿فاستقم كما أمرت ومن تاب معك﴾. فتتبع الإستقامة الحقة مؤذن بالنصب والهرم. لهذا كان الشاعر مضطلعا بدور خطير قلما أبرّ بخطورته. وعلى هذا الأساس تم ذم الشعراء القاسطين الجائرين الذين فرعوا القول أفانين وعدلوا عن حكمة الشعر المتقنة فظلموا فحق عليهم التقريع والتوبيخ. وسارت وراءهم شراذيم الغواية أي الضلالة، لأن من يرتاد متاهات الوديان لا بد وأن يضل وأن يشرد فيهلك. فمن خرج عن أصله واشتغل بفرعه مأمور بالسجود للشهود. أي أنه يسجد ليشهد أصله الذي اشتغل عنه بفرعيته. فإذا ابتعد الشعر عن جوهره الذي هو الحكمة الجامعة صار مشتغلا بفرعه الذي في النثر، فتكثر فغوي. ولهذا تبعه الغاوون أي اجتمعوا إليه. وكل ذلك مؤد إلى غيه أي هلاكه في النثر.ألست ترى أن الغاوي هو الجراد الكثير الذي يهلك الحرث والنسل. والغاغة من الناس هم الكثير المختلطون الضعفاء ولهم جلبة وصياح بدون رباح. الشعر الحكيم راشد ورشيد وقد يميل عن أصله إلى فرعه فيصبح كلاما منثورا لا حلاوة عليه ولا طلاوة. مسألة المرآة في الشعر: هذا العنوان غريب لأنه منفتح وبديهي لأن الجميع يتكلمون عن رؤي الشعراء. لكننا سنوجه القضية توجيها غير معهود وذلك بتعرية المفاهيم وإزالة طبقات المعني التي علقت بها والتي أبعدتها عن أصولها وطفولتها. إن الفرق بين الشعر والنثر هو في هذا التقسيم الجغرافي للمفاهيم. فكل مفهوم له أبعاد في المكان وأحيانا في الزمان ولا تكاد تجد مفهوما إلا ويحقق جهة معينة. والجهات ست ولهذا كان العدد ستة هو أول عدد تام لأنه مجموع النصف والثلث والسدس. ويمكن أن نطلق على هذه الفضائية "الواوية" لأن الواو في عالم الألفظ نظير الستة في الأعداد. ولهذا ترى الواحد منهما يشبه الأخر شكلا وعملا. فالواو عاطفة أي أنها تجمع وتعطف السابق على اللاحق واللاحق على السابق والمصاحب على المصاحب. فصار مضمار عطفها على ستة فرقاء فشابهت العدد ستة. ويمكن أن نوضح أكثر فنقول أن الواو تعطف الخلف على الأمام والعكس، واليمين على الشمال وعكسه، والأعلي على الأدني والعكس فصارت الأبعاد ستة. وقد لا تعطف الواو أصلا فتأتي للإستئناف ومع ذلك نقول إنها تقيدك بجهة معينة لأنك محكوم بذلك. فواو الإستئناف ترد الإنسان إلى وطنه أي إلى جهة من جهاته. كما أن واو الثمانية يمكن أن تؤول هذا التأويل على اعتبار أن انتهاء العد مؤذن باستئناف عد جديد. ثم إنك إذا أردت الجمع توسلت غالبا بالواو لأن تمام الشيء هو في الستة التي جمعت الجهات الست. ولنعد مجددا إلى عنوان هذا الفصل، وكيف يكون الشعر مرآة؟ المرآة جسم له سطح صقيل كانت تصنع من المعدن وصارت بعد ذلك من الزجاج الذي دهنت صفحته الداخلية بمزيج من الزئبق والقصدير. والمرآة تعكس النور وصور الأجسام والأشخاص. وهناك أنواع كثيرة من المرايا كالمقعرة والمحدبة والتي تظهر العيوب، والمرآة السحرية، ومرآة الطيور، ومرآة الماء في الحدائق، وكذا المرآة الحارقة وغيرها. أن للمرآة على مستوى التصور دورا خطيرا له علاقة بمفهوم الهوية والإدراك لها. فقبل الرؤية ليست هناك هوية على مستوى العلم والإدراك لأن رؤية العلم متعدية بمفعولين فهي تنتج الإدراك والتصديق له على عكس الرؤية بالعين التي لا تتعدي إلا إلى مفعول واحد. الرؤية لا تكون إلا للخارج ولكن الإنسان يحتاج لرؤية ذاته ليدرك هذا الخارج فيتوسل بالماء، المرآة الكبري في الكون. وكان للماء هذا الدور لأن له علاقة بالحياة ﴿وجعلنا من الماء كل شيء حي﴾ وأيضا ﴿وكان عرشه على الماء﴾ أي ما الحياة. فالإنسان لا ينظر إلا في الحي أما الميت فلا رؤية له ولا فيه. إذا أكثر المرء من رؤية ذاته تحولت الرؤية مرضا وعانقا عن رؤية الآخرين، ولهذا يقول العربي: أرأى الرجل إذا تبينت الرؤية في وجهه، أي الحماقة. فالكيس العاقل هو من يري ذاته في ذات الآخرين لا من يرى ذاته في ذاته لأن الشيء لا يضاف لنفسه ولا يعطف عليها. ولك في واو العطف كبير اعتبار. إن الرؤية لا يسبقها علم بالمرئي ولهذا قلنا إن الرؤية بالعين لا تتعدى إلا إلى مفعول واحد. أما الرؤية العلمية "رأى زيدا عالما" فهي المعبر عنها بالشهود. وهذا يتقدمه علم بالشهود وهو ما نسميه بالعقائد. لهذا يقع الإقرار والإنكار والإثبات والنفي في الشهود ولا يقع في الرؤية. يقول أفلاطون الحكيم في أحد حواراته في المحبة: " أن ترى نفسك في حبك كما ترى في المرآة". وأبلغ من هذا ما ورد خبرا: "من عرف نفسه عرف ربه". فأفلاطون يتحدث عن تعدي الهوية إلى الأخر المحبوب فيقع التماهي والتجانس، ونلاحظ أنه تكلم عن النفس. والحقيقة أن الذي يتجانس هي الأرواح و"الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف". ويروى عن بقراط أنه اغتم حين وصف له رجل من أهل النقصان يحبه، فقيل في ذلك، فقال: ما أحبني إلا وقد وافقته في بعض أخلاقه. أما النفس فهي متعدة ولكنها قد تتلطف وتتجوهر فتعود إلى أصلها الواحد: ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة﴾. والملاحظ أن أفلاطون يشير بقوله ذاك إلى حقيقة الرجوع إلى الإنسان الكامل أي إلى الآدمية قبل التمييز. ونحيل القارىء النبيه على حقيقة الخاتم السليماني ليفهم المقصود من كلامنا. الإنسان لا يري نفسه في المرآة وإنما يري صورته. أما المرآة الإيمانية فهي التي جاء بها الخبر: "المؤمن مرآة أخيه" لأن حقيقه الإيمان من معدن واحد بلغ الكمال بدون مرض ولا اعتلال. إن حقيقة هذا الكمال هو الترقي في المعدنية من الزئبق إلى الأسرب فالقزدير ثم الحديد والنحاس والفضة فالذهب. فماذا يرى الإنسان المؤمن في أخيه؟ يرى حقيقة كماليته حيث أن الله خلع عليه من أسمائه فتسمى العبد بالمؤمن كما تسمى الله بالمؤمن. فمن يرى في المرآة؟ وما المقصود بالمرآة في هذا الحديث؟ إنها مرائي الأسماء والصفات. ولهذا قيل "من عرف نفسه عرف ربه". من عرف نفسه بالفقر والذل والضعف عرف ربه بالغنى والعزة والقوة. وليس هناك شيء أصعب من معرفة النفس لتعددها وهوائيتها. بسطنا القول حول المرآة والرؤية لإفادة أن الكون كله مرآة واللغة من ضمن ذلك. فالحروف مرآة لبعضها وكذلك الكلمات والمفاهيم. قد يسمى هذا باصطلاحات مختلفة حسب التخصصات ولكنه يرجع في الأساس إلى هذه الحقيقة الكبرى التي هي المماثلة والإختلاف أو لنقل الجمع والفرق أو الشفع والوتر أو غير ذلك. فهاك مثلا على ذلك. إن ما يعرف بالقلب ما هو في الحقيقة إلا صورة في عالم الإشتقاق لهذه المسألة: إن مادة "عرف" يقابلها في المرآة "فرع" ولهذا كان فرعون عارفا إلا أن معرفته كانت مقلوبة. "المنهج" إذا طغى على الموضوع المتناول صار "جهنم". "سيل" تصير "ليس" لأن السيل إذا أربى فليس يبقي على شيء. والعجيب في صورة المرآة هذه أنه ما كان اسما قد يصير في المرآة فعلا أو حرفا والعكس صحيح بحيث أن الصورة تفارق جنسيتها. ولهذا يقولون إن الرؤية الشعرية للشاعر الفلاني خلاقة لأن الخلق فعل إلهي يحدد جنس الأشياء. الجناس في علم البديع داخل أيضا ضمن نظرية المرآة هذه. وحقيقة الجناس بحسب صفاء المرآة وصقلها. فقد ينقلب بفعل الصدأ أو العيب في المرآة إلى جناس غير تام. عملية الإبدال كذلك تفسر على هذا الأساس لأن الإبدال يكون في المتماثل والمتجانس مخرجا وصفة، مثال ذلك: " رغب" تصبح "رهب". وهنا الإبدال طال عين الفعل وقد يطال فاءها أو لامها. ومن الطريف أن "الرغبة" حين تنظر لصورتها في المرآة تعود "رهبة". التوابع في النحو هي صورة فعلية لنظرية المرآة. الأعداد هي الأخري لها مراياها. مثال ذلك العدد 19 مراته91. 19 هو عدد حروف البسملة أما 91 فهو عدد " كامل" الذي هو من أسماء النبي عليه السلام. ومعنا أن البسملة هي مفتتح القرآن كما أنه صلى الله عليه وسلم مفتتح الوجود. مرآة العدد 66 هو العدد 99 لأن عدد كلمة "الله" هو 66 الذي هو جماع الأسماء الحسني 99. إن حقيقة المرآة مضطردة في كل العلوم والمعارف. قد يقول القائل كل هذا صحيح ولكنك لحد الآن لم تجب عن السؤال الذي عنونت به هذا الفصل والذي مفاده أن الشعر مرآة. الجواب على مثل هذا نبدأه بالقول: إننا وإن كنا أشرنا إلى أن الشعر مرآة تركنا الأمر على إطلاقه ولم نحدد هو مرآة ماذا. والسبب في هذا التغاضي راجع إلى أننا لا نهتم هنا بمحتوي صورة الشعر. قد قال الكثيرون إنه مرآة للذات ويقصدون ذواتهم الجزئية. ونحن قلنا سابقا أن كثرة النظر إلى الذات تورث البله والحماقة والسقم. فما خلق الكون إلا لننظر فيه ونحن من الكون. فالرؤية الصحية هي التي ترى نفسا وغيرها ﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم﴾. ولهذا وجب الإمساك بهذا الميزان الرفيع لتمييز المراتب. قلنا الشعر مرآة لأن المرآة مصنوعة من الزجاج ومادته الأساسية هي الرمل. والرمل يكون بالصحراء أو إلى شواطئ البحار. فهناك بحار الرمال وبحور الرمل. وليس عجبا أن تسمى أعاريض الوزن الشعري ببحور الشعر وأن يسمى أحد هذه البحور بالرمل. فالرؤية تكون في ماء البحار والأنهار وبحور الرمال وهو ما يعبر عنه بالسراب. فيرى البدوي أخيلة وعمارا وقرناء إما في وادي عبقر أو غيره. من هنا أنجز الشاعر العربي في بحور الشعر هذه الرؤية التي رآها في محيطه فكان شعره صورة لما يراه. إن القصيدة بهذا المعنى سفينة تبحر في بحر من الرمال كما أنها خيمة وبيت من الشعر. وفي كلا الحالتين هي مرآة لهذا الوضع. وخير من عبر عن هذا الأمر هو الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي في مقدمة ديوانه الكبير الذي لا يزال مخطوطا " ديوان المعارف الإلهية". وسنرجع إليه بعد قليل لنحض الإدعاء القائل بأن التصوف لم يؤسس نظرية شعرية. وأنت إذا سألت الصوفية عن هذا أجابوك بأنه ليس عندهم نظرية في الشعر. والسامع والقارئ قد يظنان أنهم لم يفهموا ماهية الشعر. والحقيقة غير ذلك. فما يقصدونه هو أن الشعر لا علاقة له بالنظر لأن النظر ثمرة الفكر والفكر ثمرة العقل والعقل يأخذ معلوماته من النوافذ الحسية. فالمعرفة التي تنتج عن النظر معرفة مغايرة للمعرفة النوقية التي تنتج عن الشعر. ولهذا نرى الحاتمي يعنون ديوانه الآخر "ترجمان الأشواق" ونضيف أيضا متابعين له في بعض خطب كتبه بأن الشعر ترجمان الأذواق والحقائق الإلهية، ومن هنا سمي ديوانه الكبير "ديوان المعارف الإلهية". والحقيقة أن أبلغ وأدق تصور وإدراك للشعر على الإطلاق هو الذي وجدناه في مقدمة الديوان الكبير حين يتجاوز الحاتمي ثنائية اللفظ والمعنى ليسمو بالشعر إلى التعبير عن الحقائق الكبرى. الشعر ترجمان الأشواق والأذواق: قبل أن نتكلم عن الشعر باعتبار الترجمان الأكبر للحقائق الإلهية، نورد للقارئ بعض الحقائق العددية التي أخذناها من الديوان "ترجمان الأشواق". إن عدد عبارة "ترجمان الأشواق" بالجزم الصغير هو 29 وهو عدد الحروف العربية مع حساب لام ألف، وعدد السور التي ظهرت في أولها الحروف النورانية الأربعة عشر، كما أنها عدد كلمات الفاتحة مع بسملتها وعدد آيات سورة الفتح. ومرآة 29 هو 92 وهو عدد محمد الرقمي. أما عبارة "ترجمان الأذواق" بالجزم الصغير فعدده هو 35 وهو عدد الأبيات التي ذكرها في شرحه "نخائر الأعلاق". ومرآته هو 53 أي عدد اسمه أحمد. وبعبارة، إن هذا الديوان جامع للحقائق الأحمدية والمحمدية أو للأذواق الأحمدية والأشواق المحمدية. فالترجمة عن الحقائق الإلهية لا تكون إلا بحروف نفس الرحمن التي ظهرت من الإنسان الكامل. من جهة أخري، لقد اختلف الباحثون حول تاريخ تأليف ديوان " ترجمان الأشواق" وتاريخ تأليف شرحه المسمى "ذخائر الأعلاق". وإن المستشرق دوزي يزعم مثلا أن الشيخ الأكبر قد ألف ديوانه عام 598 هـ ثم شرحه بعد ذلك عام 611هـ. ورد عليه المستشرق نيكلسون في تقديمه للديوان الذي أصدره سنة 1912 أن الشيخ الأكبر ربما يكون قد بدأ تدوين قصائده منذ 598هـ ثم انتهي من تأليفها عام 611هـ، وبعد ذلك بأشهر قلية بدأ المؤلف يكتب تعليقاته حولها في حلب وانتهي من الشرح، كما يقول حاجي خليفة، عام 612هـ. كما أن محقق الديوان والشرح محمد علم الدين الشقيري يتابع نيكلسون فيما يخص تأليف الديوان ويخالفه في تاريخ الإنتهاء من شرحه، وذلك بالإستناد إلى ما يقوله الحاتمي نفسه حول تقييده لقصائد الديوان "استخرت الله تعالى، وقيدت في هذه الأوراق ما نظمته من الأبيات الغريبة بمكة شرفها الله تعالى في رجب وشعبان ورمضان في سنة إحدي عشرة وستمائة". كما يذهب المحقق إلى أن الشيخ انتهي من شرح الديوان عام 614 كما يظهر من المخطوطة نفسها التي أخذ منها الإستشهاد السابق. ولا بد أن نشارك بدورنا في هذا النقاش وذلك بالإعتماد على الديوان نفسه، وبالإستناد إلى الحقائق العددية التي ألغز فيها كثيرا من الأسرار كما أوضح بعض ذلك بشكل رائع الشيخ الأكبري سيدي عبد الباقي مفتاح في كتابه مفاتيح فصوص الحكم. أن عدد أبيات ديوان "ترجمان الأشواق" 574 أربعة وسبعون وخمسمائة، كما أنه ذكر في خطبة الديوان خمسة وعشرين بيتا 25، بحيث يصير مجموع الأبيات تسعة وتسعون وخمسمائة 599. ونحن نرجح أنه بدأ أولى قصائد هذا الديوان في هذا التاريخ. وقد كان وصل إلى مكة عام 598 أي قبل أشهر قليلة من هذا التاريخ، واستلهم من بنت الشيخ مكين الدين أبي شجاع زاهر بن رستم بن أبي الرجا الأصفهاني، المسماة بالنظام والملقبة بعين الشمس هذه القصائد. كما أن الشيخ الأكبر استعمل في هذا الديوان أحد عشر بحرا من الشعر، فإذا أضفنا هذا العدد إلى 599 أصبح لدينا 610 وهي السنة التي نرجح أنه أنهى فيها قصائد الديوان. أما عدد القطع الشعرية في الديوان فيبلغ 60 قطعة وهو مجموع عدد "ترجمان الأشواق" بالصغير 29 إضافة إلى عدد "ذخائر الأعلاق"30. وقد ذكر قصيدة في المقدمة، فيكون المجموع 60. ودليل آخر على أنه أنهى قصائده في عام 610 كونه يقول في إحدي هذه القصائد: فقلت لنفسي بعد خمسين حجــة وقد صرت من طول التفكر كالفرخ وكانت ولادته عام 560 وبعد "خمسين حجة" يوافق تاريخ 610. وقد استعمل الشيخ الأكبر في ديوانه 16 رويا زيادة على الألف المصاحب لبعضها فيصير مجموعهم 17 على عدد ركعات فروض يوم واحد. كل روي بركعة وعدد المرآة التي يصاحب فيها الألف غيره 19 مرة وإذا أضيفت إلى 16 أصبح المجموع 35 وهو كما قلنا عدد "ترجمان الأشواق" وعدد الأبيات التي ذكرها في شرحه "ذخائر الأعلاق" والتي ليست من الديوان. وقد قلنا إن مرآة هذا العدد هو 53 عدد أحمد. حجرية الشعر وشجرية النثر: هذا العنوان يلخص الفرق بين كلا الكلامين. ونحن لا نتحدث هنا عن أنواع الكتابة الأدبية، فليس هذا هو المقصود. كما أننا لسنا مع الحداثة في زعمها تجاوز جميع الأنواع الأدبية للوصول إلى الكتابة. إن الحداثة لم تبرح المكتوب في هذا الزعم. والمكتوب نوع من الأنواع فما تجاوزت شيئا. إن مراتب الوجود أربعة: وجود عيني ووجود ذهني ووجود لفظي ووجود رقمي أو كتابي. أو نقول الحروف التي يستعملها الشاعر أو الناثر إما حروف خيالية أو لفظية أو كتابية. ولكل نوع من الحروف رجال معنيون وسماء معينة. فماذا تجاوزت الحداثة إذن؟ إنها انتهت إلى ذيل الوجود وعكست الأشياء، فبدل أن تبحث في جوهرية الأمور صارت إلى فرعياتها واشتغلت بها فانحجبت عنها الأصول التي هي أصلا غيوب. يقول أدونيس في استهلال "مقدمة للشعر العربي": تجاوز الأنواع الأدبية (النثر، الشعر، القصة، المسرحية، الخ) وصهرها كلها في نوع واحد "هو الكتابة". لقد انحط أودنيس بالفرق بين الشعر والنثر إلى التقييد والكتابة أي إلى الأثر فصار أثريا. وذكر الفرع قبل الأصل حيث جعل النثر أولا ثم أعقبه بالشعر ثم فرع أفانين النثر من قصة ومسرحية….. الخ. نقول إنه انحط لأن اسمه حاكم عليه فاسمه "ادونيس" وفيه "الدونية"، كما أن هذه الدونية تضاعفت بالياء بعد النون. لا أعتقد أن أدونيس هو من الأسطورة اليونانية. هذا أمر بسيط، بل إنه ينتمي إلى الأسطورة العربية. إن نموذج أدونيس هو ذو نواس أو أبو نواس. فانقلبت واو نواس ياء عند أدونيس لأنه خفض الألف والواو فانحط عن مرتبه نموذجه. والنوس هو التحرك والتذبذب والإسترخاء. كما أن النواسي ضرب من العنب أبيض مدور ومضطرب العناقيد. ومن العنب تعصر الخمر، ولم يغن أحد الخمر كما غناها أبو نواس. كاد أدونيس أن يفهم الفرق الجوهري بين الشعر والنثر من خلال تفريقه بين الثابت والمتحول لكنه لم يسر كثيرا ذلك الإتجاه. فأين الثابت وأين المتحول بل أين هو الثابت وأين هو المتحول؟ إن حكم الإسم هو الذي حجب عنه كما حجب عن غيره هذه العلاقة الأصلية. كان يمكن لمحمد "بنيس" أن يكون شاعرا مجيدا في النسيب لأنه يحمله في أعطاف اسمه إلا أنه قلبه وزاد فيه الشدة، والنسيب لا يقبل الشدة، ولنقل أنه بنس تبنيسا أي تأخر عن النسيب وقعد عنه لأن الشدة شدته عنه. يستهل أدونيس في مقدمة كلامه مستشهدا بأحد الشعراء: ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر تنبو الحوادث عنه وهو ملموم "هذه الأمنية التي جاءت على لسان تميم بن مقبل، مفتاح لفهم الإنسان العربي زمن الجاهلية". بدأ أدونيس عاليا ثم خفضته ياءه إلى القرار. لو كان استرسل في فهم هذا البيت لاستخرج منه لب الصراع بين الشعرية والنثرية، إلا أنه لم يفعل. فهم الحجرية سلبا ولم يفهمها إيجابا. ظن أنها قادحة في الشعر والشاعر وهي عين الشعرية. وظن خطأ أن هذا البيت مفتاح لفهم الإنسان العربي في الجاهلية. إن الحجر لا يعرف معنى الزمن أو على الأقل الزمان الحيواني. وكذلك الشعر لا يتقيد بالزمن. إن هذا البيت مفتاح لفهم العين الثابتة للإنسان وفهم الشعر وأصله. إنه حجري أي ثابت الأصل. إن الشيخ الأكبر يعرف الشعر بأنه "الجوهر الثابت والنثر النوع النابت". هذا التعريف الغير المسبوق هو جماع الأمر كله في هذه القضية. الجوهر لغة هو كل حجر يستخرج منه شيء ينتفع به. وجوهر كل شيء ما خلقت عليه جبلته. والواو زائدة في التصور الأولى وأصلية في الإعتبار التدبري لأن بالواو كان كمال الجوهر وأحديته. قلنا الواو زائدة لأن في الجوهر الجهر وهو الظهور عامة وخص بإفراط حاسة البصر أو حاسة السمع ﴿لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة﴾. ولا أعظم من هذا في الرؤية واليقين. ولهذا كان الشعر هو الجوهر الثابت لأن رؤيته جهرية. وهذه الجهرية مفتتح كل شيء لأن عدد الحروف المجهورة تسعة عشر على عدد حروف البسملة، وبالبسملة يفتتح كل أمر ذي بال. وقد قال الحلاج إن البسملة من العارف بمنـزلة كن من الحق. وبالحروف تظهر أعيان الكائنات امتثالا للأمر الإلهي "كن فيكون" فظهر الكون عن حرفي "كن" قلنا أعلاه إن الحروف إما خيالية أو لفظية أو رقمية أي مكتوبة. وحين جعل الحداثيون الكتابة أصل الأنواع ومزجوها حتى لا يكون هناك فرق بين زيد وعمرو، حكموا على مكتوبهم بالموت. لقد أرادوا الفرار من الأدب عامة واستعاضوا عنه بمفهوم الكتابة لأن الأدب مفهوم أخلاقي غير محايد على عكس مفهوم الكتابة التي لا يفيد سوى عملية الإنزال في الرق المسطور. إن المكتوب لا محالة ميت ﴿لكل أجل كتاب﴾ على عكس الملفوظ لمقول فإنه يبقي صورا قائمة يقول محي الدين في الباب 26: "وهذه الحروف الهوائية اللفظية لا يدركها الموت بعد وجودها بخلاف الحروف الرقمية، وذلك لأن شكل الحرف الرقمي، والكلمة الرقمية تقبل التغيير والزوال لأنه في محل يقبل ذلك، والأشكال اللفظية في محل لا يقبل ذلك ? ولهذا كان لها البقاء? فالجو كله مملوء من كلام العالم يراه صاحب الكشف صورا قائمة‘‘. هذا كلام في غاية النفاسة لأنه مستمد من الماء المطلق الذي يحي الأموات ويحفظ من الموت ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾. الحروف المجهورة 19ومرآة هذا العدد 91 أي عدد اسم كامل الذي ينقص بدرجة واحدة عن عدد محمد. ولهذا كان الشعر هذا الجوهر الثابت الموسوم بالكمال. ولقد نبهتك على أن ’’ترجمان الاشواق‘‘ يستمد من هذه الحقيقة الكمالية من خلال مفتاح عنوانه وعدده. ثم أن الواو التي في وسط ’’جوهر‘‘ هي رمز للإنسان الكامل. إن الحقيقة الأساسية التي أومأنا إليها من خلال كلامنا عن حقيقة المرآة تدعونا لاستثمارها هذا عند حديثنا عن حجرية الشعر وشجرية النثر. فالحجر من عالم الثبات والرسوخ، ولهذا رجح عن غيره من الأجناس كما يرجح عقل الحليم عن غيره من العقول. فالرجاحة ثقل وبطء ورسوخ. ولا يوصف بالرجاحة إلا الحليم. وعكسه الخفيف العجول الطائش الموصوف بالخفة. والحجر كما يرجح يجرح أي يؤلم كما هو حجر الجوهر. فإذا أضفت واو الكمال صار الجرح جوارح أي أعضاء الأنسان التي بها يجرح الأفعال أي يكتسبها. كما أن إناث خيل تسمى الجوارح لأنها تكسب أربابها نتاجها. ولا يقال الأجراح إلا ما جاء في الشعر خاصة. إذا كان في الجوهر الجهر أي الظهور فإن في الحجر الكمون لأن الحاء حرف من أقصى حروف الحلق وهي من عالم الغيب. ولهذا سمي الغار الذي تحت الأرض جحرا. وكل الأصول والجواهر عامة دواخل أي جواحر. وفي الحجر حقيقة المنع فنقول الحَجر والحجر وسميت الغرفة بالحجرة لأنها تمنع عن الإنسان وما له الغوائل. ومن مفهوم المنع صرنا إلى مفهوم الحرام والتحريم. وأخيرا ربما كني بالحجر عن الرمل عند العرب: ’’عشية أحجار الكناس رميع‘‘ أراد رمل الكناس قد رأينا العلاقة الكبيرة للرمل بالشعر من حيث أنه بحر من بحور الشعر، ولسبب آخر أعظم من هذا ذكره الحاتمي في الباب الثامن من الفتوحات حين حديثه عن معرفة الأرض التي خلقت من بقية خميرة طينة آدم عليه السلام، يقول: ’’ورأيت في هذه الأرض بحرا من تراب يجري مثل ما يجري الماء، ورأيت حجارة صغارا وكبارا يجري بعضها إلى بعض كما يجري الحديد إلى المغناطيس، فتتألف هذه الحجارة ولا تنفصل بعضها من بعض بطبعها إلا إن فصلها فاصل مثل ما يفصل الحديد عن المغناطيس ليس في قوته أن يمتنع، فإذا ترك وطبعه جرت بعضها إلى بعض على مقدار من المساحة مخصوص، فتضم هذه الحجارة بعضها إلى بعض فينشأ منها صورة سفينة، ورأيت منها مركبا صغيرا، وسنبين، فإذا التأمت السفينة من تلك الحجارة رموا بها في بحر التراب وركبوا فيها وسافروا حيث يشتهون من البلاد، غير أن قاع السفينة من رمل أو تراب يلصق بعضه ببعض لصوق الخاصية، فما رأيت فيما رأيت من جريان هذه السفن في ذلك البحر وصورة الإنشاء في المراكب سواء، غير أن لهم في جناحي السفينة مما يلي مؤخرها أسطوانتين عظيمتين تعلو المراكب أكثر من القامة، وأرض المركب من جهة مؤخرة ما بين الأسطوانتين مفتوح متساو مع البحر، ولا يدخل فيه من رمل ذلك البحر شيء أصلا بالخاصية‘‘. هذا النص الهام جدا غامض غموضا شديدا إلا على أهله. وسيتضح للقارئ معنى هذه الرموز التي يستعملها الحاتمي هنا. ونحن مهتمون بهذا النص لما أشرنا إليه من علاقة الشعر بالحجرية والرملية. فالرمل أو الرملة أي القطعة منه وهو فتات الصخر أو الحجر. فأصل الحجر هذا الرمل، فإذا اجتمعت حبات الرمل لبعضها صار الرمل حجرا أو صخرا. فالمسألة تتعلق بالتأليف والتفكيك، وهذا هو عين ما ينكره الحاتمي في هذا النص. والمرآة تسمى رملة لأنها تجمعت من الأرض؟ أي أرض الرجل التي يطأها كما أن الرجل هو وطن المرأة الرملة أي حجرها وصخرها الذي تجتمع إليه، والذي يمنع عنها الغوائل. فأحدهما جمع والأخر فرق. أما الرمل أي البحر الشعري فهو كل شعر مهزول غير مؤتلف البناء وقد أكثر منه شعراء اليوم. ماذا يعني الحاتمي ببحر التراب والسفينة والأحجار والأسطوانتين؟ أن هذه الألغاز ما هي إلا تعبير عن حقيقة علم الشعر أو العروض. فبحر التراب هو البحر الشعري الذي تنظم فيه القصائد، والحجارة هي الكلمات التي تتألف منها القصيدة، وإن شئت قلت هي الفواصل والأوتاد والأسباب بنوعيها. والسفينة التي تبحر في هذا البحر الرملي هي القصيدة وهي التي يسافر بها الشاعر عبر الكلمات. أما أرض المركب والأسطوانتين فيقصد شكل كتابة البيت الشعري وكونه مفتوحا بين الصدر والعجز. ’’وقاع السفينة من رمل أو تراب يلصق بعضه ببعض لصوق الخاصية‘‘ يشير إلى التفعيلات المحكمة الربط. وقد أشارت إلى هذا النص قبلنا الباحثة الفرنسية المسلمة كلود عداس في أحد مقالاتها،كما أن الشيخ الأكبري عبد الباقي مفتاح فسر باقتضاب رموز هذا النص في كتابه الذي هو تحت الطبع "رجل القرآن محي الدين محمد بن العربي"حيث يقول في ص710 بعد إيراده للنص المذكور: "فأشار ببحر التراب إلى بحور الشعر، وأشار بالحجارة إلى الكلمات والحروف، وأشار بالسفينة إلى القصيدة". إن هذه الموازاة التي وضعها الحاتمي بين القصيدة والسفينة —وكلتيهما مؤنث، لأن المركوب غالبا مؤنث (فرس ناقة سيارة طائرة) والراكب غالبا مذكر لأن الحامل دائما أنثى— تفيدنا أن الهدف من الشعر هو السفر فكما أن العربي يسافر على راحلته يطوي بها المراحل،كذلك يسافر بقصيدته أو شعره. فالسفر الأول خارجي والثاني داخلي. ومن هذا سر هذه الموازنة لأن الشعر يعبر عن المشاعر أي تعبر بها? تجوز منها إلى ما هو أرقى منها. فالمقصود من القصيدة أن لا تقف عند المشاعر أي العلامات بل تعبر منها إلى الحقائق. فالسفر المقصود إذن هو السفر من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام ومن موطن لأخر. هذا السفر يكون إسراء ويكون معراجا أي يمتد أفقيا وعموديا. والإسراء يكون بالفرقان أما المعراج فلا يكون إلا بالقرآن ودليله أن عدد أنبياء المعراج من آدم والمسيح ويوسف وإدريس وهارون وموسى وإبراهيم يساوي 114 أي عدد سور القرآن. فالسفينة —القصيدة في اعتبار المحققين هي هذا السفر الذي يسافر بصاحبه عبر أيام المعارف والمعاملات والأحوال والمنازل والمنازلات والمقامات ﴿خلق الأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش﴾. وبعبارة أخرى إن السالك في سفره تتجلى عليه حقائق أمهات الأسماء الإلهية الستة وهي: العليم والمريد والقدير والقائل والسميع والبصير. هذه السفينة لا تسافر في بحر الماء بل في بحر من رمل وتراب. وبمعنى آخر إن حقيقة السفينة أن تسافر بك فيك وتردك إلى أصلك الذي ظهرت عنه "من عرف نفسه عرف ربه". هذه هي الحقيقة الكبرى لهذا السفر. فما معنى السفر إذن؟ إن حقيقة السفر هي الكشف فأنت ترى أننا نقول "سفرت الريح الغيم عن وجه السماء" أي كشفت عن السماء وفرقت الغيم، ففي السفر معان كثيرة منها كما قلنا الكشف وهو نور وإضاءة أي إخراج الأشياء من ظلمتها وعتمتها إلى النور. وفيه كذلك معنى الذهاب، فكل ذهاب سفر. ولكل سفر أثر ولكل سفارة عبارة وكل إسفار إعراب، ولهذا سمي الكتاب بالسفر لأنه يبين ويعبر عن الأشياء، ومرجعه إلى الكشف. والقصيدة سفينة لأنها تسافر بك إلا أن سفرها معتدل? مقتصد ومقصود لأنه مقرون بالتوجه والإنصاف ما بين إسراف وتقتير. وسميت القصيدة بذلك لأن صاحبها قصد إلى ذلك. وعند ابن جني: "أن أصل قصد ومواقعها من كلام العرب الاعتزام والتوجه والنهود والنهوض نحو الشيء على اعتدال كان ذلك أو جور. هذا أصله في الحقيقة، وإن كان يخص في بعض المواقع بقصد الاستقامة دون الميل. ألا ترى أنك تقصد الجور تارة كما تقصد العدل أخرى. فالاعتزام والتوجه شامل لهما جميعا". فالقصيدة ناهضة وناهدة بعدة اعتبارات، فلا يسمى قصيدا عند العرب إلا ما كان فوق ثلاثة أبيات، وعند الأخفش القصيدة من الشعر هو الطويل والبسيط التام والكامل التام والمديد التام والوافر التام والرجز التام والخفيف التام. وهو كل ما تغنى به الركبان. فالقصيدة هي نهد الكلام كما أن الخيمة نهد الصحراء. وكل مسافر لا بد له من نهود ونهوض. فلا تعقل للسفر بدونه لأن المقيم مقيل, والمسافر مغادر. ومن النهد أخذ العهد وارتضعت الألبان. ففي المعراج شرب النبي عليه السلام قدح اللبن الذي هو صورة العلم ولهذا لم يطلب الزيادة إلا منه ﴿وقل رب زدني علما﴾. وفي الحقيقة ليس هناك إقامة أصلا ﴿يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا﴾. لكن هناك حركة ظاهرة وحركة باطنة أي سفر باطن وسفر ظاهر. والباطن متوقف في الصورة متحرك أبدا. فالحركة سارية في الأكوان دائما وهي إما مشهودة وهي ما يعبر عنه بالحركة، أو خفية وهي ما يعبر عنه بالسكون ولا سكون لأن الأنسان متردد أبدا بين الأحوال والأطوار والديار. إن هذه القصيدة المكونة من الحجارة والتي تبحر في هذا البحر الرملي الترابي تفيد أن الشعرية التي تعبر عن الحكمة تلتقي مع النبوة في الترجمة عن الحقائق الإلهية وإن كان البيان بجانب الرسالة والإبهام بجانب الشعر. ألا تري أن النبي عليه السلام شبه النبوة بالحائط والأنبياء باللبن التي قام بها الحائط في الحديث المشهور: "مثلي في الأنبياء كمثل رجل بنى حائطا فأكمله إلا لبنة واحدة فكنت أنا تلك اللبنة فلا رسول بعدي ولا نبي". والحائط بناء من حجر والحجارة هم الأنبياء أي كلمات الله. عمارة السماع وسماع العمارة: إن العلاقة بين العمارة والسماع علاقة وطيدة لأن كلاهما يحدد الآخر، إن العمارة هي ما يعمر به المكان، وعمارة المكان تكون أولا بالمدر أو الوبر أو الشجر. وتكون عمارة المكان أيضا في مستوى ثان بالكلام الذي يحيى وهو كلام الله وما يشبهه لأن به يقع الإحياء ﴿أفمن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس﴾. وإحياءه يكون بالماء المطلق الذي هو الوحي. ثم إن العمارة مأخوذة من العمر والعمر وهو الحياة. فهناك العمارة الأولى وهي حسية، أما الثانية فهي معنوية وهي التي تعطي الحياة الحقيقية للمكان. ومن هذا كان السماع عمارة المكان أي حياته التي يحيى بها. قد يقول القائل كيف يكون السماع،وهو وصف سلبي لأنه إنصات، حياة أي شيئا إيجابيا يفتقر إليه المكان؟ إن السماع المقصود هنا هو السماع المطلق لأنه على الحقيقة ليس في الوجود متكلم إلا الله. أما الإنسان فهو مترجم عن الله بكلامه كما يحدث ذلك في الصلاة حين يقول المصلي نيابة عن ربه"سمع الله لمن حمده". ثم إن الأعيان قبل وجودها أي في حال عدميتها لم يكن لها من النسب إلا السمع، ولم تكن قابلة إلا للسمع. ولما خاطبها الحق بقوله "كن" تكونت وبرزت للوجود. فكان الكلام الإلهي أول شيء أدركته من الله. والإنسان يسمع بكل خروقه ولهذا يطلق لفظ المسامع على المنخرين والعينين والأذنين وسائر الخروق. إن السماع لا يكون إلا في ظرف معين ولهذا ارتبط بالعمارة وارتبطت العمارة به. والأصل هو السماع، أما العمارة بالمعنى الأول فهي فرع عنه لأنه لما تكلم الله أوجد السمع في الكون والإنسان وهو العمارة الأصلية. وعن هذه العمارة الأصلية صنع الإنسان عمارة على صورتها وعمرها بصورة للسمع الأول. فالإنسان هو عمارة الوجود لأنه كان عن كلام الله. كان الذي يحدد الصوت دائما هو ظرفه، ولهذا ارتبطت الموسيقى بالعمارة ارتباط الظرف بالمظروف. ففي العمارة البيزنطية مثلا، تم بناء الرواق على شكل خماسي حتى يكون صورة لطقس القداس المكون من خمسة أجزاء. وهذا الاعتبار هو الذي جعل انغلاق المكان بفتحات معينة هو الذي يحدد الصوتية. لكن التقنية المعاصرة تسير في غير هذا الاتجاه وتفتح أمام الموسيقى الفضاء الرحب. وهكذا صرنا نرى هذه السهرات والحفلات في الفضاء الطلق دون أن يؤدي ذلك إلى ضياع الصوت. وفي الحقيقة فإن الذي تغير هو تصورنا للفضاء لا أن حدود المكان قد حطمت. فعناصر الفضاء تغيرت من جديد، وليس هناك استقلال للموسيقى عن المكان والعمارة بشكل عام كما تدعي تقنية الصوتية العمرانية. وكل ما في الأمر أن التقنية تصحح ظاهرة انعكاس الصوت وتفاعله مع عناصر العمارة. أما عمارة السماع فهي المرحلة التي يحصل فيها الوقوف البدني والقلبي والروحي على معرس كلمة الشهادة "لا إله إلا الله" ثم يتخلل ذلك بترتيب معين كلمة الشهادة الثانية"محمد رسول الله". ونلاحظ هنا أن الكلمتين الأولى والثانية مكونتين من أربعة وعشرين حرفا كل واحدة لها اثنا عشر حرفا. ومعناه أنهما تشكلان الليل والنهار ولهذا كان عند النوبات في موسيقى الآلة أربعة وعشرين تأكيدا لهذه الحقيقة. إقبال والعربية والعالم العربي للدكتور خورشيد رضوي تعريب: محمد سميع مفتي إن من أهم الشخصيات العربية قبل الإسلام ملك حيرة، جذيمة الأبرش. وإن كلما ينتسب إليه من قصص وحكايات لها أهمية كبري في الأدب العربي، وإن لم تكن حقيقة تاريخية. ومنها ما لم تؤثر على الأدب العربي فحسب بل أثر —من طريق أدبها— على كثير من اللغات الشرقية. يقال إن جذيمة الأبرش كان مغترا بنفسه وبملكه إلى درجة أنه لم يكن يحسب أحدا يستحق أن يكون نديما له. فعندما أراد أن يشرب الخمر أهرق على الأرض كأسين بدعوى أن الفرقدين هما نديماه في هذا العمل . ولعله من أثر تلك العادة التي كانت في الإدراك اللاواعي للمجتمع العربي كما قال الشاعر : شربنا وأهرقنا على الأرض جرعة وللأرض من كأس الكرام نصيب وتسربت هذه الفكرة العربية إلى الأدب الفارسي وظهرت في شعر الحافظ شيرازي بهذا الأسلوب: إذا شربت الخمر أهرق جرعة على الأرض ولماذا الخــوف من ذنب يستفيد به أحد وأظهر (غالب) الشاعر، صاحب الأسلوب الشعري المعقد، نفس الفكرة في القصيدة التي مدح بها الملك بهادر شاه ظفر —الملك المغولي الأخير للهند— فقال: رش عــلي رشة قبل أن تشرب من الخمر الوردي لأن من عادة أهل الصفاء إهراق جرعة على الأرض واستفاد إقبال بنفس التلميح عندما أراد أن يظهر إمكانية إنشاء الحرارة الدائمة في الصور الطينية بالعشق فقال: ذلك العشق به حسن الزهور هو رَوح وبكأس تــدور إن أسلوب "كأس الكرام" كان يستخدم في الفارسية قليلا، ولكنه لم يكن يوجد في الكلام الأردي أبدا حتى استخدمه إقبال وأتى به إلى أصله. ويمكن أن يقال إنه من أمنية إقبال الغالية الحبيبة إلى نفسه التي يريد فيها الرجوع من آفاق العجمية إلى أجواء العربية النقية الساذجة ذات حرارة الحياة والتي لها أهمية أساسية في شخصية إقبال وأفكاره. وما ذكره في ديوانه "أسرار إثبات الذات" بعنوان "في حقيقة الشعر وإصلاح الأدبيات الإسلامية" كان دستورا للعمل عنده للأدب، وذلك معبرا أمنيته الشديدة تلك. من بفكر صالح فـي الأدب ارجعن يا صاح شطر العرب كان إقبال يعتقد أن: يقر بنفسي كنفس العبيـد ولحن الأعاجم ليس المفيد فسمى صوته صوتا حجازيا وخمره خمرا عربيا: إن تكن كأسي ولحني للعجم كل شيء لي حجازي النغم هي للعرب وغير يشربــون ومن الشرب تراهم يخجلون تعلم إقبال اللغة العربية تلميذا ودرسها تدريسا. وإن كيان شعراء العرب الواقعيين وصدق مقالهم وطموحهم للحرية والشجاعة كانت من طلبات روحه. أخبر قبل وفاته ببضعة أشهر مولانا أبا الحسن علي الندوي أثناء لقائه معه بإعجابه لأشعار أبي الغول الطهوي التي قال فيها : فدت نفسي وما ملكت يميني فوارس صدقت فيهم ظنـوني فوارس لا يمـلون المنايــا إذا دارت رحىالحرب الزبون وإن أثر القرآن الكريم والأحاديث النبوية والقطع الأدبية العربية على شعر إقبال كثير وواضح جدا، ولا أزال أذكر حتى الآن الحوار الذي تم بيني وبين صاحبي حسين أحمد براجه على نفس الموضوع، في إحدى أمسية سنة 1967م وكان تلميذا في شعبة اللغة العربية بالكلية الحكومية في سركودها. ففي هذا الحوار درسنا وقارنا بعض أبيات إقبال ببعض التماثيل المذكورة في القرآن الكريم وفي القطع الأدبية العربية . فمثلا نرى أن سموئل بن عادياء يذكر في هذا البيت جبلا كائنا في منطقته ويمدحه بأنه ثابت تمام الثبوت، وضخم عظيم الضخامة حيث لا يمكن أن ينال قمته، فقال: رسا أصله تحت الثرى وسما به إلى النـجم فرع لا ينـال طويـل مع العلم أن كلمة نجم معروف ولكن دخول كلمة التعريف –أل— عليه عرفه وجعله اسما للعلم وأصبح تستخدم للثريا . فكأن سموئل يقول أن الجبل الذي تفخر به قبيلتنا ثابت جامد لا يسخّر ومن جانب آخر هو رفيع إلى أن ارتفع إلى الثريا. وإذا درسنا بهذه الخلفية شعر إقبال الذي يمدح في أعلى جبال بلده جبال همالايا لا يمكن لنا أن لا نستغرب من مماثلة خياله وتمثيله. ارتفعت ووصلت للثريا وبأرض، والسماء لك دنيا وكلمات "الأب والأم والابن والبنت" لا تستخدم في العربية بمعانيها الحقيقية فحسب بل تستخدم أيضا لمعان تعبر علاقة أو جهة نسبية معينة من جهات، وقد تكون هذه النسبة خفيفة بعيدة لا تكاد تعرف إلا بالإمعان، فمثلا كلمة "ابن السبيل" استخدمت للمسافر في القرآن الكريم وكذلك كلمة "أم الكتاب" للأصل والأساس، وكلمة "أم القرى" لمكة المكرمة. وكذلك يقال للمسافر "أخو السفر". فهكذا في بيت لعمر بن ربيعة: أخا سفر جواب أرض تقاذفت به فلوات فهو أشعث أغبـر ويقال للحصاة "بنت الأرض" وللخمر "بنت العنقود" وهكذا يقال للخطوب بنات الدهر. فانظروا كيف جاء إقبال بنفس الأسلوب العربي في شعره الأردي بالتركيب الفارسي. هذه الدنيا صروف في ازدياد أمهات الدهر أكثرن الولاد وتستخدم بالعربية كلمة رحيق للخمر الخالص، فلذا ذكر في بيان نعَم يجدها المؤمن في الجنة بنفس الكلمة فقال الله سبحانه وتعالى: "يسقون من رحيق مختوم، ختامه مسك" وذكر امرؤ القيس في معلقته طائرا ذا التغريد بالصوت العالي أي المكاكي، وعبر عن تغريده العالي بهذه الكلمات: كأن مكاكي الجواء غديــة صبحن سلافا من رحيق مفلفل فكأنه يقول أن المكاكي شرب الرحيق المفلفل فرفع أصواتها وجعلها حادة. فكلمة رحيق لا نراها دخيلة في الأردية مثل الكلمات العربية الأخرى، وربما لثقلها وربما لأن نقل لطافتها ودقتها إلى الأردية تحتاجان إلى أديب يكاد الحديد يذوب ويلين في يده كالشمع. ولا أذكر أن شاعرا أرديا معروفا استخدمها في شعره، ولكن انظروا ما أجمل ما عبر به إقبال عن حدتها وشدتها حيث قال: ويسقي أولي العشق، يبغي القتال رحيق حمياه، حاد النصــال كما نرى أن كيتس Keats كان في وجوده المعنوي من أهل يونان القديمة، وكذلك إقبال كان له علاقة داخلية بالحضارة العربية، وأرض الحجاز كانت جزيرة الأحلام التي كان يتمنى إقبال فيها الموت والدفن مدى الدهر. وعندما سمع خبر فتح مستشفى الحجاز بجدة، علق عليه قائلا: ولغيـر في حيـاة بركــات في حجاز أنا لي شئت الممات وكذلك يعبر عن شعوره وأمنيته في نهاية الديوان "رموز نفي الذات" بعنوان "شكوى المصنف إلى من أرسل رحمة للعالمين" فكأنه في مجلس الرسول –صلى الله عليه وسلم— يقدم طلبه مستحييا ومرعوبا بهذه الكلمات: سيرتي ما ضاء فيها العمــل كيف مثلي مثل هذا يأمــل؟ أنا من إظهاره في خجـــل منك لطف يسر الجرأة لــي يا رحيما بك للناس مفـاز! كل ما أبغيه موتى في الحجاز لقد قارن الدكتور طه حسين بين إقبال وبين أبي العلاء المعري في مقال له بعنوان "محمد إقبال – الشاعر الذي فرض نفسه على الدنيا وعلى الزمان" وقال فيه. "كان أحدهما وهو أبو العلاء في أيامه ينظر إلى الهند ويطيل النظر إليها، والأخذ عنها والتأثر بها، حتى التزم في حياته حياة المتنسكين من البراهمة. والآخر —وهو إقبال— كان ينظر إلى العرب ويشيد بهم، ويثني عليهم، ويتخذهم المثل الأعلى للإنسانية الجديرة بالوجود والحياة والبقاء. ولكن للأسف أن عاشق سلمى العربية ظل غريبا على العرب أنفسهم مدة طويلة، يقول فيه الدكتور رفيع الدين هاشمي أن: أول فرصة عرف فيه العرب إقبال مباشرة كانت سنة 1931م. حيث وصل إقبال الإسكندرية —عن طريق إيطاليا— في أول ديسمبر بعد أن شارك في مؤتمر الطاولة المستديرة الثاني بلندن. وزار بعض الأماكن التاريخية أثناء إقامته بمصر لخمسة أيام، وحضر عدة اجتماعات استقبالية والتقي مع كبار الزعماء العاملين في مختلف مجالات الحياة وتبادل معهم الآراء. فعرف أهل العلم والصحفيون والمثقفون وأرباب السياسة أفكار شاعر المشرق مباشرة منه لأول مرة. فهذه كانت أول فرصة عرف فيه إقبال في مصر والعالم العربي. وأثناء قيامه بالقاهرة لقي لأول مرة عبد الوهاب عزام الذي يعرف الآن في العالم العربي بـ"خبير الإقباليات". يخبرنا بنفسه عن هذا اللقاء: "ومر إقبال بالقاهرة في طريقه إلى المؤتمر الإسلامي ببيت المقدس . فاحتفلت به جمعية الشبان المسلمين وحضرت الحفلة فكلفني أستاذي الشيخ عبد الوهاب النجار رحمه الله أن أعرف الحاضرين بالضيف الكريم، فتكلمت وأنشدت أبياتا من شعر إقبال، أحسبها أول ما سمع من شعره في بلاد العرب— ومما أنشدت ….." وترجمتها : "يا من يطلب في المدرسة المعرفة والأدب والذوق! أن أحدا لا يشرب الخمر في مصنع الزجاج! قد زادت دروس حكماء الأفرنج عقلي، وأنارت صحبة أصحاب البصائر قلبي! أخرج النغمة التي في قرار فطرتك يا غافلا عن نفسك! أخلها من نغمات غيرك! أقام الدكتور عبد الوهاب عزام بباكستان مدة طويلة سفيرا لبلده مصر. كان صاحب التذوق الأدبي وكان شاعرا. كان يعرف الفارسية والتركية جيدا. وكان يحب إقبال حبا جما، وكتب كتابا عن إقبال باسم "محمد إقبال سيرته، وفلسفته، وشعره" بين فيه أحوال العلامة وأفكاره وكتب عن شعره ، وكذلك ترجم إلى العربية شعرا أربعة دواوين العلامة إقبال الفارسية وهي: "أسرار إثبات الذات" و"رموز نفي الذات"، و"رسالة المشرق" و"ضرب الكليم"، وكذلك في ذكراه أنه ترجم بعض أجزاء "رسالة الخلود" وكذلك بعض منظومات "صلصلة الجرس". وكان قد أخبر العلامة عن قصده هذا قبل وفاته بأنه يريد أن ينقل كلامه إلى العربية، فعندما استأذن منه لذلك مولانا أبو الحسن الندوي أثناء لقائه الأخير معه بتاريخ 22 نوفمبر 1937م أخبره العلامة عن عزم عبد الوهاب عزام في ذلك. كتب عبد الوهاب عزام عدة مقالات وخطابات وكذلك قدم له تحية الثناء والتقدير شعرا. وجاء عبد الوهاب عزام إلى الهند قبل استقلال باكستان بأربعة أشهر سنة 1947م وسافر من دلهي إلى لاهور ليزور مقبرة شاعر المشرق، وبهذه المناسبة نظم أربعة أبيات ثم نحت له هذه الأبيات على لوحة من الرخام، وكان يريد أن تنصب هذه اللوحة في مقبرة الشاعر العظيم، فوعده المسؤولون في ذلك الحين بأنها ستنصب بعد إكمال بناء المقبرة ولكننا لا ندري أنه ماذا عمل بها فيما بعد. وهذه أبياته: عربي يهدي لروضك زهـــرا ذا فخار بروضة واعتــــزاز كلمات تضمنت كل معـــنى من ديار الإسلام في إيجــــاز بلسان القرآن خطي ففيهـــا نفحات الترتيل والإعجـــاز فـاقبلها على ضآلة قـــدري فهي في الحق "أرمغان الحجـاز" لم يترجم الدكتور عبد الوهاب عزام شعر إقبال شعرا إلا بالجهد والاجتهاد، حتى أنه كان يحاول أن لا يبعد عن معاني الشعر الحقيقية ولا عن كلماته، وإن أمكن له أن يكون الشعر في نفس البحر فعل. فلذا ترجم الديوان "أسرار إثبات الذات ورموز نفي الذات" في بحر الرمل الذي هو نفس بحر الديوان. فهذه ثلاثة أبيات من أول الديوان: قطع الصبح على الليل السفـرة فهي دمعي على خد الزهــرة غسل الدمع سبات النرجس وصحا العشب بمسرى نفسي جرب الزارع قولي محصدا مصرعا ألقى وسيفا حصدا وانظروا قطعة أدبية مترجمة من رسالة المشرق بعنوان "حوار بين الرب والإنسان" فقال فيها: خـلقتَ الأنام بطيـن وماء خلقتَ تتار وزنـجا وفرسا خلقتَ من الترب هـذا الحديد وسهما خلقتُ وسيفا وترسا وفأسا خلقتُ لجذع وغصن وسجنا صنعتُ لطير مغن خلقتَ الظلام فصغتُ السراج وطينا خلقتَ فصنعتُ الكؤسا خلقتَ جبالا وبيدا ومرجا خلقتُ حدائقها والغروسا أنا من حجار صنعتُ مرايا أنا من سموم صنعتُ دوايا فنرى أن الدكتور عزام اختار لترجمته شعرا من نفس البحر المتقارب الذي كان بحر هذه القطعة الأدبية الأردية. ورغم كل هذا الجهد هناك شكوى من قبل الدارسين العرب بأننا لا نجد في الترجمة نفس القوة والعمق الذي نسمعه ونقرأه عن شعره في التعليقات عليه (رح). فلا نرى أن الترجمة يثبت على القلب نفس نقوش المتن. فكتب الشيخ علي الطنطاوي الأديب العربي المعروف رسالة مفتوحة إلى أبي الحسن علي الندوي في مجلة ’المسلمون‘ التي كانت تصدر من دمشق، التمس إليه فيها أن يكتب شيئا يعرِّف فيه العالم العربي بإقبال وشعره ويذيقهم طعمه. فكان في أسلوب هذه الرسالة ما هز قلب الشيخ وتأثر منه فحرك قلمه المعجز في الإنشاء بالعربية وكتب عدة مقالات واحدة تلو الأخرى، واختار لترجمته من شعر إقبال غيرما اختاره الدكتور عبد الوهاب عزام. فجمعت هذه التراجم و ألفت باسم ’روائع إقبال‘ وأصبحت ثروة ذات قيمة بالغة في الأدب العربي المكتوب عن إقبال، عرفت به في العالم العربي تعريفا واضحا جليا. وإن تحرير الندوي العربي النثري لا يقل لذة من الشعر نفسه. وأصبح هذا الكتاب مجلب لقلوب الشبان العرب، وحفظوا منها صفحات وصفحات وأصبح مرجعا يؤخذ منها الإشارات في الكتابة والخطابة. وكان في هذا الكتاب بيانا عن شخصية إقبال، وتوضيحا لمهم أفكاره وكذلك ترجمة معاني منظوماته الممثلة عن أفكاره ونظرياته فكان فيه المنظومة "الذوق والشوق" و"مسجد قرطبة"، و"ساقي نامه" وبعض القطع من "جاويد نامه". وترجم هذا الكتاب إلى الأردية باسم "نقوش إقبال" وإلى الإنكليزية باسم “Glory of Iqbal” وهناك شخصية أخرى عرفت إقبال إلى العالم العربي وهو البروفيسور محمد حسن الأعظمي. هو ينتمي إلى أعظم كره (الهند) وإنه عندما أكمل دراسته في الهند سافر إلى الأزهر الشريف للتعليم العالي ثم استقل هناك ولم يرجع. نال مكانة في الأوساط العلمية العالمية وأصبح أستاذا في جامع الأزهر الشريف. إن الأستاذ الأعظمي باكستاني ذو حماسة، وإقبالي، وداع إلى الوحدة بين المسلمين. ومع كل عمله في التصانيف العلمية والأدبية أنشأ منظمة باسم "الأخوة الإسلامية" التي سجلت فيما بعد باسم "اتحاد العالم الإسلامي"، فكان الأستاذ الأعظمي فيها الأمين العام المؤسس وكان الدكتور عبد الوهاب عزام رئيسا له. فاجتهدت هذه المنظمة بأقصى ما أمكن لها أن تقدم خدمة للمجتمع العربي في إبلاغ شعر إقبال وأفكاره. وكان الأستاذ الأعظمي يجيد اللغة العربية إجادة تامة وكان يترجم شعر إقبال نثرا ويسمعه كبار أساتذة الجامع الأزهر الشريف الممتازين والشاعر الجليل الأستاذ محمد صاوي شعلان، وكان الأستاذ صاوي شعلان يسمع كلامه ويعيه ويستوعبه ثم يترجم معانيه شعرا من غير أن يراعي الكلمات الأصلية كأن هذه المعاني والمشاعر نزلت على روحه وألقيت عليه إلقاء. فأفاد هذا الأسلوب لترجمة المفهوم كثيرا. وكان كلام الأستاذ صاوي شعلان قويا متينا محكما، ومن حسن الحظ لفتت ترجمته للقصيدة "الشكوى وجواب الشكوى" نظر مطربة المشرق أم كلثوم إليها فاختارت منها 28 شعرا وغنتها في إحدى مجالس الموسيقى يوم 4 مايو سنة 1967م وسجلت هذه الغناء ثم نسخت منها عشرة آلاف نسخة، وسميت باسم "حديث الروح" ونالت شهرته الآفاق في الشعب العربي. وسميت بهذا الاسم من أول كلمة في ترجمة أول بيت في "جواب الشكوى" وهي: حديث الروح للأرواح يسري وتدركه القلوب بلا عنـاء ومن الصدق أنه لو لم تكن أم كلثوم قد غنتها لما وصلت رسالة إقبال إلى الشعب العربي بحد وصلت إليهم بهذه الغناء حتى نالت شهرتها الآفاق العربية. ولم يكن من الممكن أن يصل إليهم تلك الرسالة إلى هذا الحد بأي وسيلة أخرى. وأصبح العرب يعتقدون من وسيلة "حديث الروح" إن إقبال من الشعراء العرب. فمنحت حكومة باكستان أم كلثوم "وسام الامتياز" ودعت الأستاذ صاوي شعلان إلى باكستان حتى يستمر في ترجمة كلام إقبال في هدوء منعزلا من الأشغال. والترجمة الأخرى للأستاذ صاوي شعلان نالت الشهرة هي ترجمته لـ"ملي ترانه" باسم "النشيد الإسلامي" والذي يستهل بهذه الكلمات: الصيـن لنا والعرب لنــا والهنــد لنا والكل لنــا أضـحى الإسلام لنا دينـا وجميع الكون لنا وطنــا جعلت المنظمة "اتحاد العالم الإسلامي" هذا النشيد نشيدها الخاص، وأعدت إذاعة دمشق لها لحنا جميلا جدا وسجلتها به. وهناك شخصيات أخرى ساعدت الأستاذ صاوي شعلان في فهم كلام إقبال بالترجمة العربية نثرا غير محمد حسن الأعظمي، منهم عبد الباري أنجم الذي قام بهذه الخدمة إلى حد ما، أقام عبد الباري بمصر مدة طويلة وكان يجيد اللغة العربية جيدا. وعندما قدم الأستاذ صاوي شعلان باكستان سنة 1968م، وأقام بإسلام آباد تشرف بخدمته محمود أحمد غازي. والتحق محمود غازي بإدارة البحوث الإسلامية آنذاك وكلف بمهمة التعاون مع الأستاذ صاوي شعلان، وقام بهذه الخدمة المستمرة ليلا ونهارا. وكانا يجلسان بمهمة ترجمة شعره طول النهار أي من بعد صلاة الفجر إلى أن يؤذن للعشاء. كان الأستاذ شعلان يعرف الفارسية إلى حد ما ولكنه لم يكن يعرف الأردية مطلقا. ومفهوم أبيات إقبال الذي كان يشرحه محمود أحمد غازي فكان الأستاذ شعلان يطبعه على ماكينة بريل، ثم يفكر في هذا المفهوم قبل صلاة الفجر وكان يطبع كلامه العربي المنظوم والمنسوخ من آهات إقبال السحرية وأفكاره وتخيلاته على نفس ماكينة بريل، ويملي كل ذلك في اليوم التالي على محمود أحمد غازي. وأحيانا كانا يدرسان أبيات الشاعر غالب والشاعر أكبر إله آبادي ويترجمانها إلى العربية. فنتيجة لهذه المساعي أصدرت إدارة البحوث الإسلامية بإسلام آباد سنة 1974م كتيبا صغيرا باسم "مختارات من شعر إقبال" يشمل على ثلاث منظومات – منظومة "لينن في حضور الله تعالى" ومنظومة " فاطمة بنت عبد الله" ومنظومة "في حضور رسول الله"— ترجمة عربية شعرا للأستاذ صاوي شعلان. وبمناسبة حفلات عيد ميلاد العلامة محمد إقبال المئوي في ديسمبر سنة 1977م المنعقد بمدينة لاهور —تحت إشراف اللجنة الباكستانية والمصرية— طبع وقدم كتاب باسم "إيوان إقبال" ذو 260 صفحة يشتمل على التراجم المنظومة للصاوي شعلان والتوضيحات النثرية لمحمود غازي. ولم يكن مستوى الطباعة جيدا ونسي ذكر اسم محمود أحمد غازي أحد المترجمين للعجلة. فكان في هذه التراجم مثنوي "والآن ماذا نصنع يا أمم الشرق" وطبعت هذه الترجمة المنظومة والنثرية من قبل "دار الفكر" دمشق سورية سنة 1988م، طباعة جيدة وبشكل جميل، باسم "يا أمم الشرق". ولا بد من ذكر مساعي الشاعر الثوري والزعيم محمد محمود الزبيري اليمني، بجانب التراجم المنظومة للأستاذ صاوي شعلان. فكما يقول عمر بهاء الدين الأميري أنه مماثل في أفكاره مع العلامة إقبال إلى درجة أنه يصعب على أحد أن يميز بين أشعاره وبين تراجمه الشعرية لإقبال لأنهما كما يقول الأميري صدرا من قلبين توأمين. أقام الزبيري بباكستان بين 1948م وبين 1952م كلاجئ سياسي. وربما قربه بإقبال حضوره في مجالس "دراويش إقبال" عند الدكتور عبد الوهاب عزام والتي كانت تقام هناك من وقت لآخر، إلى إقبال الذي أفكاره يشبه أفكاره، وكان الزبيري يعرف ذلك لكونه شاعرا مثله، قيل: لا يقل نظم الكلمات عن عمل الترصيع فليس الشعر إلا من أعمال آتش المرصع ولا ريب أنه ليس من اليسير أن يترجم الشعر إلى نثر، فكيف به أن يترجم إلى شعر، وكيف بهذا الشعر إذا كان أجنبيا على لغة الشاعر إنها لمعضلة كنت أشعر معها وأنا أترجم بعض المعاني ترجمة حرفية بأنني أظلم إقبال، وأنتزع روح شعره من جثمانها، ثم أغمها على أن تسكن جثمانا آخر، وهيهات! إن سر التركيب الشعري لا يستعصي على الترجمة من لغة إلى أخرى فحسب، بل حتى على نقل معناه باللغة ذاتها إلى تركيب آخر. وأعجب من ذلك أنه يتمرد حتى على الشرح والتفسير. فمن يشرح البيت الشعري الرائع أو ينثره إلى لغة ذاتها، لا يستطيع أن ينقل عناصر الإحساس الكامنة في تركيب ذلك البيت إلى الجملة المنثورة أو المفسرة، فكيف به يستطيع أن يترجمه إلى لغة أخرى. على كل كان الزبيري يخطو على نفس حد السيف هذا فألبس أبياتا من شعر إقبال لباسا عربيا والذي لم يكن ترجمة لشعره ولكنه كان ترجمة لمفهوم شعره, ومثاله كالتالي: رب هب للشباب آهاتي والحرى وهب للصقور ريشا جديدا بغيتي أن تـمد في الأرض من شعلة قلبي نورا عميقا سديدا وهناك من ترجموا كلام إقبال ترجمة نثرية فمنهم من يعرف باسم سمير عبد الحميد إبراهيم، وهو أستاذ بكلية الألسنة الشرقية في جامعة القاهرة وكان قد أقام بمدينة لاهور مدة من الزمن ليعمل في البحوث في شعر العلامة محمد إقبال وأفكاره وربما هو مقيم في هذه الأيام بمدينة الرياض. وأثناء قيامه بلاهور صدر له كتابان، وقام بطبعهما مولانا عبيد الحق الندوي من مؤسسته للطباعة والنشر؛ المكتبة العلمية بليك رود، لاهور. فالكتاب الأول صدر في فبراير 1976م باسم "إقبال وديوان أرمغان حجاز"، ناقش فيه سمير عبد الحميد عن العلامة محمد إقبال وشخصيته وعهده وأفكاره ومصنفاته الشعرية نقاشا مفصلا. ثم ركز على ديوان أرمغان حجاز فعرّف أولا محتوياته ثم جاء بدراسة تحليلية عليها، وبعد ذلك ترجم الكتاب ونقله بالعربية كاملا ترجمة نثرية لا شعرية، فقال: قلت للناقة وقت السحر: تهدي في سيرك فالراكب مجروح ومريض وعجوز فصارت تخطو كالسكران حتى أنك تظن أن رمال الصحراء أضحت تحت قدميها حريرا وطبع الكتاب الثاني للأستاذ سمير عبد الحميد في يوليو 1978م باسم "ديوان الأسرار والرموز"، فناقش فيه على مثنوي "أسرار إثبات الذات" و"رموز نفي الذات" نقاشا مفصلا، ثم جاء ببيان ردود الفعل من قبل الطبقات المختلفة للمجتمع، ثم جاء بذكر ما يختلف فيه الطبع الأول من الطبع الثاني، ثم أوضح ترابط المثنويين ببعضهما، وكذلك أوضح خلفيتهما في الأدب الإسلامي. وكذلك جاء بمراجعة ما ترجمه الدكتور عبد الوهاب عزام من هذا الديوان، ثم عرب أبياتا من نفس الديوان صرف عنها الدكتور عزام نظره والذي عدده حوالي مائة وخمسين، فترجمها نثرا وفسرها. وكذلك طبع الترجمة الشعرية لديوان "أسرار إثبات الذات ورموز نفي الذات" للدكتور عزام كملحق للكتاب. وقد صدر كتاب آخر من قلم الأستاذ سمير عبد الحميد باسم "الطريق إلى وحدة الأمة الإسلامية" سنة 1401هـ وقارن فيه أفكار مولانا أبي الأعلى المودودي وأفكار العلامة محمد إقبال رحمهما الله. وإن أجود ما أنتج في بحث الباحثين في الإقباليات الجادين هو ما أنتجه الأستاذ الدكتور محمد السعيد جمال الدين، المدرس بكلية الآداب بجامعة عين الشمس. والذي ترجم الديوان "جاويد نامه" للعلامة محمد إقبال باسم "رسالة الخلود" وفسره كذلك على سعة حوالي ثلاثمائة وخمسين صفحة. وطبع هذا الكتاب سنة 1974م. وكان أساس هذا الإنتاج بحث الدكتور محمد السعيد جمال الدين والذي أعده للدكتوراة في الأدب الفارسي على عنوان "جاويد نامه". ونظرا لأهمية هذا الكتاب أراد الدكتور عزام أن يترجمه فبدأ به ولكنه لم يتمكن من الاستمرار فيه وذلك لانشغاله في ترجمة الديوان "بيام مشرق" شعرا . فسد مبحث الدكتور محمد السعيد جمال الدين ودراسته هذا الثغر أحسن تسديد، فإنه ترجم مفهوم ألف وتسعمائة وتسع وخمسين شعرا لجاويد نامه نثرا، ولم يقف أثناء قيامه بهذا العمل الجليل عند الترجمة فقط بل قدمه من حيث المجموع في أوسع نطاق كان فكر إقبال قدم —من قبل— إلى العالم العربي، وذلك ببيان خلفية فكره، وبيان إشارات تمهيدية للطواسين المختلفة وبيان دراسات تحليلية للرموز الفلسفية. وكذلك ترجم الدكتور محمد سعيد جمال الدين باشتراك حسن محمود الشافعي كتاب “The Development of Metaphysics in Persia” إلى العربية بعنوان "تطور الفكر الفلسفي في إيران" والذي طبع سنة 1989م في القاهرة، مع العلم أنه هناك ترجمة عربية أخرى لنفس الكتاب بعنوان "ما وراء الطبيعة في إيران" للدكتور حسين مجيب المصري، ولكنه ترجم عن ترجمة ذلك الكتاب باللغة الفرنسية لعدم العثور على نفس الكتاب المكتوب باللغة الإنكليزية. ولهذا أحس الأستاذ الدكتور محمد السعيد جمال الدين والأستاذ الدكتور حسن محمود الشافعي بضرورة ترجمة هذا الكتاب مباشرة من لغته الأصلية الإنكليزية. ويمتاز الدكتور حسين مجيب المصري في عارفي أفكار إقبال. وله عدة تراجم لكلام إقبال وشعره، وطبع ترجمته شعرا لـ"جاويد نامه" سنة 1973م بعنوان "في السماء"، وفي سنة 1975م طبعت ترجمة منظومة للأبيات الفارسية من الديوان "أرمغان حجاز" وسميت بعنوان "هدية الحجاز"، وكذلك في سنة 1976م طبع مقاله باسم "إقبال والعالم العربي" في كليتي اللغتين الإنكليزية والعربية، وفي سنة 1977م طبعت ترجمة منظومة لـ"كلشن راز جديد" باسم "روضة الأسرار"، وفي سنة 1978م طبع "إقبال والقرآن" وسنة 1981م "إقبال بين المصلحين الإسلاميين". وفي هذا الكتاب حاول الدكتور حسين مجيب أن يقدم إقبال كمصلح إسلامي مقارنا بينه وبين زعماء الحركات الإصلاحية في ذلك العصر مثل؛ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا ومحمد عاكف ونور الدين طوبجو وسامحه آي ويردي ومحمد تقي طباطبائي وأمير كبير، وأبو الكلام آزاد وأبو الأعلى المودودي. مع العلم أن هناك كتاب صنفه الدكتور عثمان أمين باسم "رواد الوعي الإنساني في الشرق الإسلامي"، فطبع من قبل وزارة الثقافة والإرشاد القومي بالقاهرة سنة 1961م. ناقش فيه الدكتور عثمان أمين عن جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي والعلامة إقبال من الناحية الفكرية. وكان الدكتور عثمان أمين تأثر كثيرا من "فلسفة إثبات الذات" لإقبال وكتب مقالا باسم "رسالة محمد إقبال" وأخذ هذا المقال إعجاب القارئين. وإن مما لا بد من ذكره هنا هو الكتاب "إقبال: الشاعر الثائر" للشاعر المصري وكاتب القصة والروايات، ومؤلف التمثيلية نجيب الكيلاني، وطبع هذا الكتاب لأول مرة سنة 1959م ويعرف إقبال تعريفا واضحا مفصلا رغم صغر حجمه، وأسلوب الكتاب مؤثر جدا، وكان قد نال هذا الكتاب قبل طبعه جائزة في السباق التحريري في تأليف السير والتراجم المنعقد من قبل وزارة التربية والتعليم سنة 1957م. ولا يخفى عليكم أن أكبر جهد للترجمة تم في شعر إقبال وأفكاره قد تم في مصر، والتي هي مركز لثقافة العالم العربي. ولا يسمح لي هنا طوالة الكلام أن أقدم للقارئ شعوري عن "تجديد التفكير الإسلامي" لعباس محمود (القاهرة 1955م) ترجمة خطبات إقبال باللغة الإنكليزية بشأن التشكيل الجديد، وكذلك عن "العلامة محمد إقبال— حياته وآثاره" (مصر 1980م) للدكتور أحمد المعوض، وكذلك عن "الفكر الإسلامي في أدب إقبال" للدكتور أحمد ماهر البقري، وغيرها من كتب كثيرة. وكذلك لا يمكن لنا أن نحيط كل ما كتب عن إقبال من مقالات ومصنفات وكتابات وقد طبعت عدة مجموعات لها ومازالت تطبع، ومن نوعه ما قام بتأليفه وبجمعها الدكتور ظهور أحمد أظهر بعنوان "إقبال العرب على دراسات إقبال" وما قدمه الشعراء العرب من تحية إكبار وتقدير منظومة، لا يمكن لنا أن نناقش فيها بين هذه الصفحات القليلة. إن ذكر إقبال وشعره نال أوج السماء ليس في مصر فحسب بل في بلدان عربية أخرى، وربما دمشق ثاني منطقة نالت هذا الشرف، وربما سببه وجود الدكتور إحسان حقي هناك، والذي كانت له علاقات شخصية مع العلامة إقبال، والذي خلده مملوء بالحب والحنين لباكستان وأهلها . وكذلك بسب التحاق السيد توحيد أحمد بسفارة باكستان وتواجده هناك والذي يحب باكستان وحضارتها حبا جما، فهو أحد أسباب تعرف الأدبا السوريين بأدب الإقباليات وإقبالهم عليها، والسيد عبد المعين الملوحي أول أهل دمشق شارك في الأنشطة الأدبية المنعقدة على إقبال في سورية وكتب بعض المقالات في التعريف بإقبال وكذلك ترجم الديوان "بال جبريل" إلى العربية، ولم تكن هذه الترجمة من الأردية مباشرة، فترجم هذا الديوان ظهير ظاظا بعنوان "ديوان جناح جبريل" من قبل دار إقبال بدمشق فطبع. وكذلك كان قد طبع كتاب "فلسفة إقبال" للدكتور علي حسن من قبل سنة 1985م من دار السوال بدمشق. وكذلك طبع ترجمة الديوان "بس جه بايد كرد" —والذي ذكرناه أعلاه— بعنوان "والآن.. ماذا نصنع؟ يا أمم الشرق" لمحمود أحمد غازي والصاوي شعلان، سنة 1988م، من دار الفكر بدمشق. وهناك كتاب آخر طبعه دار الفكر بدمشق، سنة 1964م بشأن الإقباليات باسم "ذكرى محمد إقبال" والذي كان يشمل بعض المقالات والمنتخبات من شعر إقبال. وكذلك مقال مولانا أبي الحسن علي الندوي باسم "روائع إقبال" الذي ذكرناه —مفصلا— فيما مضى من الصفحات، طبع بدمشق لأول مرة. وأما العراق فهناك اسم يلفت النظر إليه بشأن الإقباليات ألا وهو اسم السيدة أميرة نور الدين داؤد والتي تعد من المترجمين العرب للعلامة إقبال، ولها كتاب باسم "درر من شعر إقبال شاعر الإسلام وفيلسوفه" وطبع هذا الكتاب من بغداد سنة 1951م. وكذلك طبع كتاب "إقبال– الشاعر والفيلسوف والإنسان" سنة 1963م من نجف. وأما اليمن فقد ذكرنا السيد محمد محمود الزبيري أعلاه والذي عمل في مجال أنشطة الإقباليات فيها. وأما المملكة العربية السعودية فعرف فيها إقبال من كتاب "محمد إقبال وموقفه من الحضارة الغربية" لخليل الرحمن عبد الرحمن، والذي طبع في مكة المكرمة سنة 1988م. وجدير بالذكر أن نذكر هنا خدمات مكاتب السفارة الباكستانية في البلدان العربية المختلفة في أنشطة الإقباليات، فمثلا هناك مجموعة من ترجمة بعض منظومات إقبال ونثره باسم "نداء إقبال" قدمت في مؤتمر إقبال في نوفمبر 1985م، ومن ثم طبعت من قبل دار الفكر، دمشق سنة 1986م. وأقيم هذا المؤتمر بالتعاون بين السفارة الباكستانية بدمشق وبين وزارة الثقافة السورية. وهناك بعض طباعات تمت من قبل مكاتب السفارة الباكستانية في بعض البلدان العربية منها: السفارة الباكستانية بالقاهرة الباقوري، سيد أحمد حسن وسيد سجاد حيدر "محمد إقبال فيلسوف الإسلام وشاعر باكستان" 1967م حديث الروح، 1970م محمد إقبال (مجموعة مقالات لكل من طه حسين، عباس محمود العقاد، فتحي رضوان) س ن السفارة الباكستانية بدمشق شاعر باكستان والفيلسوف الكبير محمد إقبال، 1985م إقبال الشاعر الفيلسوف، البذرة التي أزهرت باكستان، 1985م أفكار إقبال (أربع محاضرات) 1987م السفارة الباكستانية بالرياض عبد الرحمن خليل الرحمن، إقبال وقضايا معاصرة، 1985م الآفاق، 1986م إقبال والأمة الإسلامية، 1986م الفضل، عبد الهادي، المسئولية الخلقية في فكر الدكتور محمد إقبال، 1986م الطرازي، عبد الله مبشر، المفكر الإسلامي الكبير، العلامة الدكتور محمد إقبال، 1987م وينبغي أن لا ننسى ذكر ما طبعته إكادمية إقبال باكستان بلاهور، من المطبوعات العربية عن إقبال وفكره وشعره بأخذ الصورة العكسية من المطبوعات المصرية وسدت ضرورة السوق، مثلا كتاب "محمد إقبال سيرته وفلسفته وشعره" للدكتور عبد الوهاب عزام، وكذلك ترجمته للديوان "بيام مشرق" التي طبعت سنة 1982م من قبل قسم الإقباليات لجامعة بنجاب لاهور، وكذلك مجموعة "أبحاث ذكرى إقبال المئوية" والتي تشمل كتابات ومقالات عربية قرئت في المؤتمر المئوي العالمي المنعقد خلال حفلات عيد ميلاد العلامة محمد إقبال في ديسمبر سنة 1977م بمدينة لاهور، والتي قام بالإشراف على إصدارها بروفيسور محمد منور الأخصائي المعروف في الإقباليات. وأما بالنسبة إلى القارة الباكستانية — الهندية فلا بد من ذكر تصنيف عربي ضخم —ذات 440 صفحة— باسم "الاتجاه الإسلامي في شعر محمد إقبال" للدكتور صلاح الدين محمد شمس الدين الندوي الذي طبع سنة 1991م من الدار السلفية، بومباي، الهند. ولا يزال المصنفات العربية عن إقبال شخصه وشعره وأفكاره يزاد يوما فيوما. وفي النهاية أحب أن أذكر مقال البحث لفهمي قطب الدين نجار باسم "محمد إقبال وصلته الثقافية بالعالم العربي، تأثره وتأثيره" والذي صنفه للدكتوراة من الكلية العربية في جامعة بهاولبور الإسلامية، وما زال قيد المناقشة. إقبال فى فلسطين للدكتور حازم محمد أحمد محفوظ وقف العلامة الفيلسوف محمد إقبال – رحمة الله عليه— حياته للنهضة بأمته الإسلامية فى مشارق الأرض ومغاربها، ورأيناه يهتم إهتماماً بالغاً بقضايا العالم العربى على وجه الخصوص. وفى طليعة إهتمامه هذا تأتى فلسطين العربية التى كان لها فى قلبه منـزلة خاصة. لقد داوم على ذكرها فى مجالسه الأدبية ومحافله السياسية، وكذلك دواوينه التى نظمها باللغتين الأردية والفارسية، وفى رسائله الأدبية أيضاً. إن أقدم ما وصلنا من عظيم إهتمامه بفلسطين العربية ذلك المؤتمر العظيم الذى ترأسه فى مدينة لاهور حاضرة إقليم بنجاب بجمهورية باكستان الإسلامية اليوم، وذلك فى الثالث من ربيع الآخر عام 1348 للهجرة الموافق السابع من سبتمبر عام 1929 للميلاد، وكان هدف هذا المؤتمر تقديم إحتجاج على سياسة حكومة المستعمر الإنجليزى نحو قضية فلسطين العربية ورعايتها لليهود. يقول العلامة إقبال فى خطابه التاريخى الذى ألقاه بهذه المناسبة مبينا ما يجرى من أحداث جسام فى فلسطين العربية، وهى تتشابه مع ما يحدث اليوم فى الضفة الغربية وقطاع غزة، يقول: "إن المسلمين يستشهدون فى فلسطين، وتُقتل نساؤهم وأطفالهم، وتُسفك دماؤهم فى القدس الشريف التى فيها المسجد الأقصى الذى أُسرى إليه الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم." ثم أجاب العلامة إقبال على بطلان دعوى اليهود بإمتلاك جزء من المسجد الأقصى يقول :" كان هيكل سليمان قد اُنهدم قبل دخول المسلمين القدس الشريف بقرون، ولم يكن اليهود على معرفة بمكان ذلك الهيكل حتى اكتشفه المسلمون، وبنوا فى ذلك الموضع مسجداً كبيراً يسمى المسجد الأقصى، وموضع المسجد الأقصى بكامله وقف لله تعالى فى الشريعة الإسلامية، ولا يجوز إمتلاكه لأحد إطلاقاً، فدعوى اليهود بإمتلاك جزء من المسجد الأقصى باطلة وغير شرعية من الناحيتين القانونية والتاريخية.". وبعد هذا المؤتمر بعامين تقريباً يتلقى العلامة إقبال دعوة رسمية للمشاركة فى المؤتمر الإسلامى العام الذى يعقد فى بيت المقدس، وكان هدف هذا المؤتمر السعى إلى إنقاذ فلسطين العربية من الخطر الصهيونى. ولبى العلامة إقبال الدعوة وقدم القدس الشريف بطريق مصر ـ التى مكث فيها خمسة أيام ـ ووصل القدس الشريف فى صباح يوم الأحد السادس والعشرين من شهر رجب عام 1350 للهجرة الموافق السادس من شهر ديسمبر عام 1931للميلاد، وإستقبل إستقبالاً رسمياً وشعبياً، وكان فى مقدمة مستقبليه الشيخ السيد محمد أمين الحسينى المفتى الأكبر للقدس ورئيس المؤتمر0 وبقى العلامة إقبال فى فلسطين العربية مدة عشرة أيام، وبعدها سافر عائداً إلى موطنه الأم فى يوم الثلاثاء الخامس من شعبان عام 1350 للهجرة الموافق الخامس عشر من ديسمبر عام 1931 للميلاد. وفى المؤتمر الإسلامى العام الذى انعقدت جلسته الإفتتاحية داخل المسجد الأقصى فى ليلة الإسراء، وفى الجلسة الأولى التى عقدت فى صباح اليوم التالى ـ أى يوم الأثنين ـ انتخب العلامة إقبال وكيلاً للرئاسة0 وألقى خطبة عصماء مؤثرة قبل سفره، وذلك فى الجلسة الثالثة عشرة التى عقدت فى مساء يوم الأثنين الرابع من شعبان الموافق الرابع عشر من ديسمبر، وفيها ودع المؤتمر الإسلامى العام وقال: "لا أدرى إذا كان يسعدنى الحظ بزيارة فلسطين مرة أخرى." ثم أعرب عن أمله بمستقبل المسلمين وهو الأمل الذى عززه الروح الطاهر الذى ساد المؤتمر. ثم حث على نشر هذا الروح فى الجمعيات الإسلامية، وعلى العناية بالنشىء المقبل0 وقال :"إن الإسلام مهدد بشرى الإلحاد والوطنية العنصرية، وأن على المؤتمر تبعات كثيرة." ثم قال: "إن مستقبل الإسلام يتوقف على وحدة العرب، فإذا تمت وحدة العرب علا شأن الإسلام." ثم حث على مكافحة القوى الداخلية والخارجية التى تعمل على تمزيق الوحدة الإسلامية. ثم شكر المؤتمر لتفضله بانتخابه وكيلاً للرئاسة، وقال: "إنه يضع نفسه تحت تصرف المؤتمر ورهن إشارته، اينما كان وحيثما حل." ثم تكلم الزعيم السورى رياض بك الصلح وشكر العلامة إقبال عطفه على القضية العربية باسم شباب سوريا والعرب، ووجه كلامه إلى العلامة إقبال ورجا منه أن يحمل تحيات العرب إلى المسلمين فى شبه القارة. ثم خطب الشريف عبد الله أمير شرق الأردن فحيا العلامة إقبال 0 وتلاه السيد محمد رشيد رضا المصرى صاحب مجلة المنار، فعدد خدمات العلامة إقبال وحياه بكلمة وداع طيبة. ثم أُوقفت الجلسة مدة عشر دقائق ليتمكن أعضاء المؤتمر من توديع العلامة إقبال. وفى هذا دليل على عظيم شأن وشهرة العلامة إقبال، وإعتراف كل كبار معاصريه من الساسة والعلماء الأدباء ورجال القانون والفلسفة وغيرهم فى العالم الإسلامى الكبير بمنزلته الفريدة. وأثناء قيام العلامة إقبال فى القدس الشريف تحركت شاعريته، فنظم عديد من الأبيات المؤثرة تعبر عن موقفه المعلن. كما رأيناه يلقى بعض أبيات له فى حفل دار الأيتام، وهى تتعلق بالأندلس، وقام أستاذنا المرحوم الدكتور عبد الوهاب عزام بترجمتها ونقلها إلى الشعر العربى، كما قام أستاذنا الجليل الأستاذ الدكتور حسين مجيب المصرى ـ أطال الله بقاءه ـ بتأليف كتاب قيم عنوانه: الأندلس بين شوقى وإقبال وأورد فيه ترجمة عربية منظومة لأندلسيات إقبال كلها. ولم تنقطع صلات العلامة إقبال بفلسطين بعد عودة وحتى آخر حياته. بل ظل يناصر قضية العرب فلسطين، ففى خطاب ألقاه فى مؤتمر الرابطة الإسلامية المنعقد فى شهر ربيع الآخر عام 1356 للهجرة الموافق شهر يوليو عام 1937 للميلاد، أعلن تأييده لعرب فلسطين وحظرهم من المخطط الإستعمارى الغربى والصهيونى، الذى يهدف إجلاء العرب عن فلسطين لتقوم دولة لليهود فيها. وفى ديوانه ضرب الكليم الذى نظمه باللغة الأردية وهو آخر ما نشره العلامة إقبال، نظم منظومة تحت عنوان: الشام وفلسطين، وأخرى فى موضوع: إلى عرب فلسطين، ففى الأولى رأيناه يقول، وهو ما صار فيما بعد القول المأثور: إذا قال اليهود إن لهم الحق فى أرض فلسطين، فمن باب أولى أن يقول العرب: "إن لهم الحق فى أرض أسبانيا". ويقول العلامة إقبال فى رسالته إلى القائد الأعظم محمد على جناح رحمه الله عليه: "إن لمشكلة فلسطين أثراً كبيراًَ فى نفوس المسلمين، وإننى شخصياً لمستعد إن أذهب إلى السجن لأمر له تأثير على الإسلام، فإن وجود مركز غربى على بوابة الشرق خطير للغاية." وأختم كلمتى برسالة وجهها العلامة إقبال إلى العرب يقول: "من الواجب أن يتنبه العرب، بأنهم لا يستطيعون الاعتماد على من لا يملك الكفاءة والقدرة للوصول إلى رأى حول قضية فلسطين بحرية فكر واستقلال ضمير، فكل ما يقرره العرب لابد أن يقرروه معتمدين على أنفسهم بعد دراسة كاملة للمشكلة التى يواجهونها." هذه رسالة إقبال إلى أمتنا العربية، وهذا موقفه وموقف دولته جمهورية باكستان الإسلامية0 رحم الله العلامة إقبال. موسميات مراكشية الحكمة والفنون العريقة بدار الإسلام احتفاء بالفقيد العالم إبراهيم تيتوس بوخاردت مناظرة دولية من5 إلى9 مايو 1999 بمراكش قائمة الأساتذة المحاضرين: السادة: رشيد الهدى مهندس معماري، خبير لدى منظمة اليونسكو في المحافظة على التراث. مراكش عبد الغني بنيس مهندس معماري باحث في الملامح الحضرية للمدينة الإسلامية. مراكش مولاي عبداللطيف الحجامي مهندس معماري، خبير في المحافظة على التراث وانقاد مدينة فاس عبد الإله بنعرفة باحث في الموسيقى العريقة. سلا محمد المطالسي معماري، مدير الأنشطة الثقافية بمعهد العالم العربي بباريس عبد الباقي مفتاح عالم ومؤلف بشأن الدراسات الأكبرية. الجزائر جان لويس ميشون باحث في التصوف والفنون العريقة. سويسرة استيفانو بيانكا باحث في الفنون العريقة وانقاد التراث. سويسرة وليام شيتيك أستاذ العلوم الإسلامية بجامعة نيويورك جيمس موريس أستاذ العلوم الإسلامية بجامعة أوبرلين أحمد الطيب أستاذ بجامعة الأزهر بالقاهرة محمود إيرول قيليس أستاذ الدراسات العثمانية بجامعة إستامبول. كلية العلوم الدينية والتصوف سيد حسين نصر أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة جورج واشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية محمد سهيل عمر رئيس أكاديمية إقبال بباكستان كامل خان ممتاز أستاذ الفنون العريقة بجامعة لاهور. بباكستان فيكتور باليخا دي بوستانزا أستاذ فقه اللغة وباحث جامعي بجامعة برشلونة إيريك جوفروا باحث في الدراسات الأكبرية بجامعة سترا سبورغ بيير لوري أستاذ بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا بجامعة الصوربون جان بيير لوران أستاذ بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا بجامعة الصوربون مارتن لينكس أستاذ باحث في المعارف الحكمية. بريطانيا كيث كريتشلوف أستاذ بمعهد الأمير ويلز للهندسة المعمارية ببريطانيا فيليب فور باحث مدير مجلة "المعارف الدينية" باريس موسميات مراكشية الحكمة والفنون العريقة بدار الإسلام احتفاء بالفقيد العالم إبراهيم تيتوس بوخاردت مناظرة دولية من5 إلى9 مايو 1999 بمراكش على غرار الدورات التي سلف عقدها في أيام بسائط الموسميات المراكشية، فإن الاحتفاء بالمرحوم إبراهيم تيتوس بوخاردت يشتمل على عدة لقاءات علمية تتخللها عروض ولقاءات على النمط الأصيل وستشمل البرامج معارض لفن المخطوطات العربية النادرة المتوفرة بخزانة كلية ابن يوسف بمراكش، ويعقبها لقاء بأحد الصناع الحرفيين المهرة في فن صياغة المعادن الكريمة وتجميعها، الحاج محمد باري المراكشي. وهكذا سفتتح المناظرة بالمتحف الخاص بمراكش وستنظم جولة إلى ضواحي المدينة لزيارة زاوية مولاي عبد الله بن احساين بتمصلوحت. أما موضوع المناظرة، فإنه يدور حول النقط التالية: دراسة وتقديم أعمال إبراهيم تيتوس بوخاردت عروض في مختلف أبواب الفنون العريقة مهداة إلى الفقيد بوخاردت ملامح المعمار الإسلامي والمحافظة على التراث أمسيات موسيقية لطرب الآلة والملحون… فن الحكي، رواية قصة أحمد المؤتمن ابن هارون الرشيد من كتاب ألف ليلة وليلة حصة مخصصة لمنطق الطير، تتخللها قراءة لبعض المقتطفات من كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار حصة ختامية لسماع مختارات من أشعار أبي الحسن الششتري وعمر بن الفارض ومحمد البوصيري وسيدي العربي بن السايح وقصائد من نظم الفقيد الشاعر المراكشي الحاج محمد بلمحجوب التبايك. إبراهيم تيتوس بوخاردت ومعنى الجمال — لماذا أحبَّ المغرب وأكب على خدمته— هناك حكمة نطق بها الرسول، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، غالبا ما استشهد بها تيتوس بوخاردت، في معرضِ حديثه أو عندَ كتابته حول قيمة الفن العريق الروحية، ألا وهيَ: ﴿إن الله كتب الإحسان على كل شيء﴾. لا ريب أن كل مسلم يعرف حق المعرفة اللفظ المترجم هنا بالإحسان، بدليل أن هذا الأخير إنما يعني أقصى منزلةٍ من الكمال في الدين، وهي منزلة الرجل الواصل المتمسك الذي لا يكتفي بأمور التكليف الشرعية، تقيداً بأركان الإسلام الخمسة فحسب، بل يلتزم بالإيمان الصادق وبعقيدة التوحيد، ليصل في نهاية المطاف إلى حالة تصبح الفضيلة لديه فيها أمراً طبيعياً، حيث يكون تام اليقين بإن الله يراه. ذلك هو الإحسان، وهو أسمى درجات الكمال، يرقى إليها أهل الإحسان. أما بالنسبة لتيتوس بوخاردت، الذي جُبل في نفسِ الوقت على طبعٍ فني ورثه عن والده كارل بوخاردت النحات المعروف، وعلى موهبة فهم قوية، فإن الإحسان الذي كتبه الله على كل شيء، إنما يشف سيان من الأشياء التي ابتدعتها يد الله، بمعنى في سجل الطبيعة الكبير المليئة كل صفحة من صفحاته بعلامات الغنى المطلق العام لبديع السماوات والأرض، أو من وجود وعلوم الرجال أرباب القلوب. هؤلاءِ الرجال هم قبل كل شيء، الحكماء الواصلون الذين تحققوا في بواطنهم واهتدوا إلى كيمياء السعادة والحقيقة. وقد كشف لنا بوخاردت، في أول كتاب له عن المغرب، الصادر بالألمانية العام1941، وفي دراسته حول فاس ﴾1960﴿، التي ينتظر صدور ترجمتها إلى الفرنسية بفارغِ الصبر منذ ذلك العهد، عن الكيفية التي اتفق له بفضلها أن قدم إلى المغرب بهدف البحث عن الأولياء، الذين لقي ثلة منهم وصحبهم. على أن هناك الصناع المهرة الذين تفننوا، انطلاقاً من القواعد والتقنيات الموروثة عن العصور الضاربة في القدم، في تشييد المباني وزخرفتها وفي صنع الأشياء المخصصة للاستعمال اليومي، سواءاً لفائدة الأمراء أو الطبقات المتواضعة. إن هؤلاء هم بناة صرح الحياة الذي تكامل فيه ازدهار الحضارة الإسلامية، منذ أن انتشرت رسالة الإسلام خارج الجزيرة العربية. لقد أقام بوخاردت معهم علاقات صداقة أخوية، مبنية على التفاهم المتبادل وتشارك الآراء، في جو يطبعه الإحسان. وهكذا، فلعلمه الوثيق بأن الصناعة الحرفية، مثل الهندسة المعمارية والتمدين العريق، إن هم إلا أجزاء لا تتجزأ من الحضارة الإسلامية، وبأن المحافظة عليهم واستمراريتهم، بل وحتى إحياءهم، إنما تعتبر بمثابة الشروط التي لا غنى عنها لصيانة القوام الروحي في حياة الأمة، فإن بوخاردت لم يتردد في تخصيص سنوات عديدة من عمره لإنقاذ مدينة فاس. ففي الواقع، وعلى حد قول بوخاردت يوم 12 أبريل 1974، غداة تأسيس جمعيةٍ لإنقاذ فاس» ليست المدينة متحفاً« والعهد »بفاس أنها على جانب كبير من التجانس، تتميز أشكالها بنظام رائع يفرض نفسه على فكرنا كعالم كامل التناسق مع تمسكه العميق بإنسانيته. فما من شك أن هذه الوحدة عبارة عن حصيلة اعتدال وحكمة تستوفي حاجيات الإنسان المادية والنفسية والروحية« عبد الخالق (جان لويس( ميشون شامبيزي )سويسرا( يناير 1999 مدينة مراكش العريقة رشيد الهدى نظرة حول إعادة الأهلية إليها أثناء مقامه بفاس آن إنجازه المهمة المنوطة به من قبل منظمة اليونسكو، قام تيتوس بوخاردت بإبراز القيم الدائمة للهندسة المعمارية العريقة لهذه المدينة، وهي تشتمل على: فضاء في مستوى الإنسان الخاصية الإنسانية العميقة المميزة للمدينة: ففيها ملائمة بينة بين الإنسان والبيت والدار والحي والمدينة والبيئة الخارجية؛ وفي الواقع، كل شيء في المدينة يناسب الإنسان وهو في مستواه، وانطلاقا من ذلك، يتوفر محيط مهذب وودي يتميز بالإنعاش والاطمئنان، على النقيض من المحيط اللاإنساني السائد في الأحياء والمدن الحديثة. لقيمة الممنوحة للحياة الأسروية والفردية: إن الحياة الأسروية والفردية في مأمن ليس من الضجيج والغبار فحسب، بل حتى من داء السل ورعونة الشارع العمومي، وذلك بفضل الفناء الداخلي الذي تقره الهندسة المعمارية. النشاط الاقتصادي المشجع على التكافل المهنيى: إن الأسواق وأحياء الحرفيين المهرة منظمة بشكل حرفي يضمن تحقق التكافل المهني والاجتماعي. وحسب وجهة نظر هندسية معمارية، فإن الأسواق بجميع أنواعها من حيث التخصص قد أحكم إعدادها بإتقان ملحوظ. العلاقة الجوهرية بين النافع والجميل في الهندسة المعمارية والحرف الأصيلة: وهذا ناتج عن غياب هذا التفرع الثنائي الذي يتسبب في التعارض بين التقنية والفن. الإدماج النفعي والزخرفي للماء في الهندسة المعمارية وحب الحدائق الداخلية. غياب قطيعة بين الحياة الدينية والدنيوية. إدماج الأضرحة والمقابر في الحياة العامة: ومن هناك انعدام الكره للموت. قدرة الصانع على التأقلم: وبخاصة، قدرته على إيجاد منتوجات صالحة بأقل الوسائل وبالتالي في فضاء أدنى وقدرته على مقاومة هجوم العصرانية. لقد تم تسجيل هذه الأفكار في مدونة حررها تيتوس بوخاردت بتاريخ 20 أبريل 1976. وعلى مستوى الأفكار، فإنها تحدد العبور من مرحلة العمل على استصلاح المدينة )ببرامج التجديد وإنجاز طرق كبيرة لتيسير المرور والسير(، إلى المرحلة التي تستكمل فيها جميع الترتيبات التقنية الهادفة كشف الإواليات التنموية الأصيلة للمدينة، وكذا طرق تنشيطها ومبادئها التأسيسية. وأغلب ظننا أن هذه القيم تتلاقى في التنظيم الحضري الذي يحكم مدينة مراكش، ومن الواجب أن تشكل هذه القيم أساسا لكل حركة تستهدف إعادة الأهلية إليها. الذي غدَت روحه ومعها نفسه قبالته كلاهما شفافية تامة. في تلك الآونة، كنت أفكر في أهمية الوظيفة التي اضطلع به بوخاردت في معرض التعريف بالشيخ الأكبر لدى العالم الغربي، وأستذكر مؤلفاته: »ترجمة كتاب فصوص الحكم« »مدخل إلى مذهب التصوف في الإسلام« »المفتاح الروحي لعلم الفلك الإسلامي ترجمة كتاب الإنسان الكامل« التي أجاد في استهلالها بمقدمة رائعة، والتي سبق لي أن طالعتها كلها أيام دراساتي بجامعة هارثارد. لكم كانت هذه الكتب أساسية لتيسير شرح جوهر علوم الشيخ الأكبر ومدرسته، بأسلوب العلماء الربَانيين، قوي مبين، استهَلَ التعبير به روني كَينون )الشيخ عبد الواحد يحي(، وأمعن في تدقيقه شون، وأكَب بوخاردت على تطبيقه بنفس المهارة التي يتميز بها حالة تناوله علوم الشيخ الأكبر. غالبا ما كانت الاتصالات اللاحقة بمدرسة ابن العربي تعيد إلى حافظتي ذكرى تلك اللحظات التي كنا أثناءها متربعين قرب ضريح الشيخ الأكبر. إن الإمكانية التي أتاحت لي معاينة بوخاردت مستغرقا في تأملاته حول معاني هذه الحقيقة الكامنة في عمق التصوف نفسه بطبيعة الحال، وأن أكون شاهدا على خشوعه وهو بين يدي هذا المقام المبارك، وعلى شفافيته وهو في مقابلة الحقيقة البادية بشكل كله غموض في مقامات عُرفت ماهيتها عن طريق الجغرافية المقدسة وعموما بمحاكاتها لأضرحة أو مقامات أكابر الأولياء، —أقول— كوني قمت بهذه التصرفات، جعلني أوقن تمام اليقين بعُمق الهوة السحيقة التي تفصل بين الفهم النظري للحكمة وبين التحقق الفعلي بها. وعلى النقيض من الكثرة الكثيرة من أولائك المتشددين من علماء الظاهر الذين يكتبون عن الشيخ الأكبر، والذين ما برحوا يجاهرون باستقامة معتقدهم الصارمة، مع أنهم ما اسطاعوا بعد التحقق بحقيقة التصوف، فإن بوخاردت كان يعيش الحقيقة التي تتصدر كتاباته. كان ينبعث منه النور العلمي الخارق للعادة لينفُذ إلى أعماق النصوص التي يتناولها بالدرس ويضيء مفاهيمها بطريقة قلما تتوفر سوى عند امرئٍ هبطت الحقيقة من روحه إلى أعماق قلبه فاكتمل تحققه بها. وكانت تتجلى على وجه بوخاردت، غداة جلوسنا بضريح الشيخ، سمات ولي وهب بصيرة ثاقبة، نيرة بشكل خارق، مشربة بالفضيلة وبنفس مشرقة يجملها وجود هذه الحقيقة التي جد في دراسة أوجهها المذهبية بتبصر وتفهم. ثم غادرنا بعد ذلك ضريح الولي الصالح وقد اعترانا شعور بمجاذبة خاصة جدا نحو العلوم الوهبية الجوهرية للتصوف التي قدر للشيخ الأكبر أن يتولى رسالة صياغتها (أو إيضاحها) والتي تدخل، إلى جانب علوم أدنى منها أهمية، في نسيج ديباجة واسعة مستأثرة بشغل حيز فريد في تاريخ التصوف. فانطلق بوخاردت قاصدا بيت المقدس وفي نيته ليس فقط أن يلتحق بمكان معراج الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي ذكره الشيخ الأكبر ببلاغة متناهية فحسب ولكن ليزور قبر سميه في الإسلام إبراهيم الخليل أبي الأنبياء عليه السلام. وقد كان اقترح علي أن أرافقه في هذه المرحلة من رحلته، إلا أن بعض الضرورات ألزمتني لغاية الأسف أن ألتحق بطهران. من كان باستطاعته التكهن بكل هذه التغيرات الجذرية التي طرأت على القدس والخليل خلال بضعة شهور فقط؟ فكاتبني في أعقاب ذلك بخصوص العناية الربانية التي شملت رحلتنا وكيف أن هذه النعمة اللادنية تشكل امتدادا لما وهبنا الله من بركات ذلك اليوم العجيب الذي أمضيناه بدمشق والذي اختلفنا فيه إلى ضريحي السيدة زينب والشيخ الأكبر. صحبة تيتوس بوخاردت بضريح الشيخ محيي الدين بن العربي سيد حسين نصر أخذ تيتوس بوخاردت يعلق على بعض الملامح من العلوم والترات الإسلامي عامة، وكذا بشأن بعض المواضيع كالتشابه البيئوي والجغرافي بين هذه الناحية وبين العدوتين، الأندلس والمغرب، وهي المنطقة التي كان يعرفها جيدا، وأخيرا بخصوص التكاملية الحاصلة بين الجبال والمفازات المحيطة بالعديد من الحواضر الإسلامية كدمشق ومراكش. كانت تأملاته المتبصرة تجلب البهجة والنضارة بمرأى من هذا المشهد الطبيعي الذي كثيرا ما شاهدته ملياً من ذي قبل، علاوةً على ما أنها تتسبب في استبطان هذه الرؤية، وهذا ما لا يمكن أن ينتج إلا عن الإشعاع الروحي الذي يصدر بمحضر حكيم. وقد ارتأينا، فور حلولنا بدمشق، أن نزور أولا ضريح أو ” مقام “ السيدة زينب حفيدة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ضريح الشيخ ابن العربي، على أن نلتحق في نهاية المطاف طبعا، بمسجد الأمويين. وكما لاحظ بوخاردت، فإن أدب الزيارة يلزمنا أن نؤثر كريمة الإمام علي وحفيدة الرسول الأعظم بخطانا في المقام الأول. وعلى عكس باقي الأيام التي يكون فيها مقام الست زينب، على حد تسمية الدمشقيين لها عامة، شديد الازدحام، كنا نحن في هذا الصباح، أول من زار المقام، حتى لكأن ذلك كان عن قصد. كان باقي من حضر المكان وقتئذ بعض الصناع الحرفيين المهرة الفرس المتحدرين من أصفهان، وهم على قدم وساق في إعادة بناء القبة أو إكساء جدران البناية بالخزفيات. وبعد أن قضينا الصلاة، استغرقنا هنيهة طويلة في التفكر مليا ونحن صامتين، ثم دنونا من هؤلا الصناع الذين اتضع جليا للعيان أن أعمالهم اجتذبت مؤلف أروع المصنفات ]إبراهيم تيتوس بوخاردت[ التي لم يكتب قط مثلها في عصرنا الحالي في ميدان الفن الإسلامي. وأخذ بوخاردت يتحدث عما يتحلى به الصناع من ورع عميق ومن خشوع وهم يؤدون عملهم. وتذكرنا بعد ذلك مدينة فاس والمشروع الذي تناولته مذاكرتنا، والخاص بالمؤلف الذي كان يعتزم كتابته بخصوص أصفهان، لفائدة سلسلة »اشطاطن ديش كايشتش« (فضاءات الفكر العليا)، التي كان يدير شؤونها وقتئذ بمؤسسة أورس كراف فيرلاك. كانت وقتها أغلى أمنياتي تتمثل في أن أشاهده حالة تأليفه لكتاب مثل »فاس— مدينة الإسلام« حول مدينة أصفهان الفائقة الجمال التي كان يود زيارتها. يا لها من خسارة أنه لم يكتب لهذا المؤلف أن يرى النور بتاتا وأن العالم لم يشاهد قط، من خلال رؤية هذا الترجمان الكبير عن الفن الإسلامي— إبراهيم عز الدين /تيتوس بورخاردت، مباني العاصمة الصفوية تلك، المشيدة بذوق مرهف ومهارة متعالية. وعلى إثر هذه الزيارة التي أعقبها ملتقانا مع الفن الفارسي، بواسطة هؤلاء الصناع العاملين بضريح السيدة زينب، غادرنا سهول الجنوب التي تؤوي مقامها الشريف وفي نيتنا الالتحاق بالسفوح الجبلية شمال دمشق، حيث المثوى الأخير للشيخ الأكبر. ودلفنا ألى المزار بإجلال بالغ، وجلسنا، بعد التضرع وصالح الدعاء، على مقربة من قبر الشيخ الأكبر، حيث يخيم جو من الاستغراق في التفكر، وحيث يسود الهدوء التام. ومما زاد سكينة هذا الجو الهادئ عمقا أننا وجدنا نفسينا وحيدين للمرة الثانية في هذا الفضاء المعظم، الذي يحاكي، مثل جميع الأماكن المماثلة، نقطة اعتدال وانعكاس نور الأبدية على صورة الوجود المحيطي المتحركة. على أني ما فتئت وأنا أفكر باستغراق بشأن الحقيقة الكامنة في التصوف، ألقي نظرة خاطفة بعد أخرى على محيا صاحبي وهو الآخر مستغرق في التأمل، وكأنما تنظر عيناه المغمضتان إلى الداخل، صوب قلبه، في حين يعكس وجهه نور عقله وفضلا عن ذلك، تشير أعمال بوخاردت إلى أن ما يمكن وضعه من تطابقات وتوازيات يستند إلى حقيقتين رئيسيتين تتمثلان في الميزات المشتركة بين ديانات التوحيد والتي تضفي على الإسلام وعلى المسيحية توجهات متشابهة على المستوى الفني، من جهة أولى، ومن جهة أخرى، في التفكر في علم الكونيات وفي العلاقة بين الله والطبيعة، في عقيدة مراتب الوجود مضمومة بنشر وإعادة قراءة تراث الأفلاطونيين المحدثين—أو أشباههم— إن في مضمون النص الإسلامي أم في مضمون النص المسيحي. هذان المعطيان يمكنان بوخاردت بصفة خاصة من بسط تحليلات عميقة بشأن الهندسة الدينية، والعلاقة بين المادة والشكل والنور، سواء في العالم الإسلامي أو في الغرب القروسطي. تكتسي العلوم الإلهية والكونية والإنسانية المثبتة في الثقافتين في القرنين الثاني عشر والثالث عشر على الخصوص أشكالا تعبيرية تصح المقارنة بينها، كما أنها تتيح لهذين التراثين أن يتلاقيا في بعض الأحيان. لذلك فإن بوخاردت ينعم بغبطة متساوية غداة تحليلة للعلاقة الرابطة بين المعدني والزجاج المزخرف والضوء، فيما يتعلق بالهندسة القوطية لكاتيدرائية شارتر على الخصوص، وكذا بالهندسة المغربية بالأندلس والمغرب. وبناء على ذلك، فإن علوم بوخاردت تظهر بمثابة عمل رائد، على نفس طريقة ماسينيون وكَينون وكوربان، لكن في مجال مختلف. على أن هذا العالم الفذ وإن لم يشأ إعداد منهاج للمقارنة في مادة »فلسفة الفنون«، إلا أنه أجاد في بسط العديد من صالح التحليلات المتوازنة الكاملة الإثارة والتي اهتدت إلى إبراز التباينات المتعذرة الانحلال، علاوة على تلك التي تعبر عن الإدراكات الحسية، والتمثلات وعلاقات الوحدة والتعددية والمتناهي واللامتناهي، الأقربين على الخصوص. مقارنة في خدمة الفنون الدينية الفنون الإسلامية والفنون المسيحية القروسطية في أعمال تيتوس بوخاردت فيليب فور غالبا ما كان تيتوس بوخاردت يلجأ إلى المقارنة، في معرض الأعمال التي خص بها مجالي الفن الديني عموما والإسلامي خاصة، سيما إذا تعلق الأمر بما له ارتباط بالفن القروسطي. الواقع أن الفضل يرجع إلى أرومة هذا المؤلف وكذا إلى تكوينه وإرثه الأسروي في كونه قد أتيح له التضلع المكين سلفا في العلوم الفنية الغربية، منذ بزوغها في غابر الأزمان إلى يومنا هذا. وعلما بأن مساره الفكري قد قاده تجاه العلوم الإسلامية، فقد وجد نفسه في وضع متميز للتوسط، وليكون جسرا واصلا بين الشرق والغرب، فكان بذلك في عصره إحدى الشخصيات النادرة التي تأتت لها الإجادة المتساوية في الاشتغال بعلوم فنية مختلفة، بواسطة مقالات وكتب تتعلق بالإسلام تارة، وبالعالم الغربي تارة أخرى، إلى جانب رسم مقارنات داخلية متعلقة بعدد معلوم من دراساته، حول العالمين الفنيين. غاية هذه المشاركة تحديد المقدمة المنطقية لهذه المقارنة مع مظاهرها والمحيط الذي تشغله في مادة الفن الديني الذي يظهر بوخاردت بمثابة أحد رواده، سعياً وراء تقييم خصوبتها. وبدهي أن بوخاردت كان لا يكتفي البتة بتوضيح دور المواريث الثقافية أو التأثيرات على صيغة أو على تيار فني بعينهما، على طريقة من أرخوا للفن في عصره. وسواء تعلق الأمر بالإسلام أو بالمسيحية، ودونما جهلٍ أو إغفال منه للمفهوم التاريخي وللمعارف التي يوفرها، فقد كان بوخاردت، على العكس من ذلك، يحدد بطريقة متناهية في الوضوح، الأشكال الفنية داخل ارتباطها بالبنية الجوهرية للوحي المعني بالأمر. وكان في معرض مساره هذا يعمل على إبراز تدرج للفنون لا يمكن أن يكون إلا مغايرا من ملة إلى أخرى، كما يبرهن قطعيا على أن العلاقة بين الفن التصويري والفن التجريدي ليست هي هي بعينها في الديانتين السالفتي الذكر. ومن ثم، يكون في مقدور بوخاردت أن يبين محتوى نوعية الفن الإسلامي ومحتوى نوعية الفن المسيحي، فيكشف عن التناسب العميق الحاصل بين شكل تعبيري معين وبين الرسالة التي تتضمنه. لكن هذه المقارنة لا تسير في اتجاه التمييز المتعذر التمييز فحسب، إذ أن بوخاردت يهتدي أيضا إلى العثور على نقط التلاقي المضبوطة، وعلى المجالات الأوسع التي تتلاقى فيها العلوم المسيحية والعلوم الإسلامية من جديد، بتعابير شكلية متباينة. وبطبيعة الحال هناك نقط التلاقي الناجمة عن التاريخ والجغرافيا، في القرنين الثاني عشر والثالث عشر بجزيرة صقلية والأندلس على الخصوص، ثم في القرنين الخامس عشر والسادس عشر بالإمبراطورية العثمانية. يشهد لذلك انتقال بعض الحلول التقنية من الشرق إلى الغرب وكذا العمل بصيغ معمارية مسيحية من قبل فنانين مسلمين. وفي ميدان ما يسمى »بالفنون الزخرفية« هناك تناول خصب لميراث نفيس وقديم من الزخارف، ساعدت طبيعتها الهندسية وحيويتها التناغمية على إثراء النتاجات الفنية في العالم الغربي وفي العالم الإسلامي. اجتمعت بتيتوس بوخاردت مرة أخرى خلال سنواته الأخيرة حيث كان يعاني من إعاقة بدنية بدأت تشله. لم يصب في قوته الفكرية بأي نقص بل لقد أصبحت أكثر جلاءاً في هذا الظرف. لا زِلت أذكر ذلك التعبير المؤثر الذي كان على وجهه. كان يسمو به فوق كل ألم مادي مفروض عليه. حتى في مثل هذه اللحظات من الأسى التي يترقب فيها الآخرون الشفقة عليهم أكثر من أي شيء آخر، كان سؤاله الرئيسي كما أتذكره "أ هناك ما يمكن القيام به من أجلك؟" إن كتب تيتوس بوخاردت ومقالاته لتراث نفيس، وإن السعادة لتغمرني لرؤيتها تجد قراءاً جدداً، ويعاد طبعها وتترجم. إن رسالته وتميزه ليظهران من خلال كتاباته، ولا شك، حتى لأولئك الذين لم يحالفهم الحظ للالتقاء به شخصيا. ومع أن أغلبها قد تم أعداده باللغة الألمانية إلا أنه، كما ذكر لي مرة، كان يحب الكتابة بالفرنسية لشغفه بدقتها الفريدة. لكن، وبالرغم مما ذكر فإنني أجد استعماله للألمانية خاصة جد مقنع لتمكنه من الاستغلال التام للمعنى العميق والدلالات المجازية الأصيلة التي يمكن أن تقدمها اللغة الألمانية كما تشهد عليه أعمال شعرائها وكتابها ومفكريها المرموقين، وكذا لتجنبه الأسلوب الغامض والمعقد الذي ينزله بعض الكتاب بنصوصهم. الخاصية الرئيسية للكتابته هي ذلك الجمع النادر بين العمق الضمني والبساطة الظاهرة. إن هذه البساطة في التعبير لتعكس صفاء عقله وتمكنه من الموضوع. إنه لأمر عرضي كون بعض نقاده أساءوا فهمها فرفضوها كعلامة عن السذاجة. إن هذا الأمر ليعبر عن عجزهم هم لا عن قصوره هو. مثله كمثل الكتاب الكبار يدرك بأن الحقيقة لا يمكن تحديدها أو تمثيلها بالألفاظ. إن سر الكتابة يكمن في تطويق الحقيقة والإحاطة بها إلى درجة معانقة الجوهر من خلال الفراغ المحدد من قبل التعابير الاصطلاحية. إن إدراك الجوهر يستلزم ألفة وانهماكا فعليين من قبل القارئ. يستطيع الكاتب أن يهيء ذلك ويشترطه لكنه لا يمكنه أن يجعل له بديلا. "العلامة المميزة للشيخ هي وعيه بنسبية الأشياء وضرورتها. لا يعرف ما تتضمنه الأشكال إلا من علمه يسمو به فوقها". بهذه الكلمات البسيطة عرف تيتوس بوخاردت طريقته الخاصة وكذا المعيار الذي ظهر هو من خلاله كواحد من الأساتذة القلائل في زمان ومكان غالباً ما اغتصبت فيه الحقائق الروحية أو انحرف بها إلى بواعث أخرى إن لم يكن قد تجوهل أمرها عمداً. سألني مؤخرا أحد الصحافيين الذي كان يعد مقالة عن تيتتوس بوخاردت فيما إذا كنت أشعر بأن أعماله قاومت امتحان الزمن، أو فيما هي لا تزال وثيقة الصلة به. لقد فاجئني بهذا السؤال لأنني لم أفكر قط في أعمال تيتوس بوخاردت كجزء من نزعة أو نمط خاص بفترة زمانية معينة. إن ما يميزها هو ذلك البحث عن القيم السرمدية. إن مدى نجاح كتاباته في تلك المحاولة هو الذي أكسبها خاصية خالدة، ستبقى مفتوحة، سهلة المنال للباحثين عنها. العلوم الأصلية والفن الديني بالغرب في بداية القرن العشرين جان بيير لوران إن الفكرة القائلة بأن الفن ليس من صنع أشخاص عباقرة، غالبا ما يكونون على قطيعة من الآراء الدينية والفكرية السائدة في مجتمع زمانهم، بل هو تعبير عن الحقائق الأبدية الشاملة، لم تختف البتة من أوروبا الغربية، برغم ما حققته العصرنة من تقدم في القرن التاسع عشر. وعندما ولد بوخاردت عام 1908، كانت قد صدرت منذ سنتين، مجلة تطمح أن تكون عريقة (بمعنى مقارب للمفهوم الذي كان يتعين على شيخه روني كينون "1886—1951" عرضه في كتابه المؤلف ما بين 1921) و(1951 تحت عنوان: »مصنفات بول فوليوض المثالية« (1950—1875)، وبقيت مسترسلة إلى زمن الحرب العالمية الأولى، سنة 1914. كان مديرها مفكرا في علم الباطن، متضلعا جدا في اللاهوتية المسيحية والقبلانية التي تنافح عن فكرة الاستمرار بين الفن القروسطي الخاضع لقواعد دقيقة بصدد الرمز إلى أشخاص ربانيين على الخصوص وبين فن عصر النهضة. كان يستند إلى الزخارف الرمزية التي تستمر دونما انقطاع في ترسيخ المفاهيم مع الإشارة إلى معنى داخلي للباطن. كانت المجلة تستنكر أيضا فن الرسم الانطباعي لارتكازه على مفهوم لأصل النور يعتبر ماورائيا شيئا باطلا. ولبث كينون مدة من الزمن متعاونا مع فوليوض، وكثيرا ما تراسل مع أحد مخترعي فن التكعيبية، ألبير كليزيس (1953—1881)، الذي حاول في تصويره تطبيق مبادئ إظهار الشكل حسب العلوم الوهبية الشاملة، وهي المبادئ التي اكتشفها في مؤلفات كينون. وهكذا، فإن أضفنا إلى من ذكر آنفا إسمي كل من ماركو بالليس (مراسل كليزيس) أو آناندا كومار اسوامي (1947—1877)، محافظ متحف الفنون الجميلة ببوسطون، الذي تدين نظرياته حول الفن بالكثير لقراءات كينون وتأملاته، فسيتأكد بأن الأفكار التي عرضها بوخاردت في مؤلفه "مبادئ ومناهج الفن الديني" بالاعتماد على المسيحية والإسلام والشرق الأصيل في آن واحد، تكون مطابقة لضرورة حقيقية لا محيد عنها في حياة الرجال. ملخص دراسة حول أهمية علوم الأستاذ إبراهيم عز الدين محمد سهيل عمر لقد قضى الأستاذ إبراهيم عز الدين/ تيتوس بوخاردت المولود 1908م والمتوفى 1984م، معظم حياته في البحث عن اللب، والتنقيب عن الحكمة، سعيا منه إلى إيضاحها بهدف تبليغها إلى البشرية. وليس من شأن مقالتنا هذه أن تأتي على البيان المفصل للمعارك العلمية لهذا العالم الفذ أو أن تتناول ذكر شخصيته، وهو الذي يتميز بأنه لم يكن مستشرقاً بالمعنى المعروف، رغم كونه غربي النسبة. أما مكانته ومصنفاته، فإنها تكتسي أهمية كبرى، خاصة منها تلك التي لها علاقة بدراسة الحضارة الإسلامية، إذ أنها تنفرد تماما عن مصنفات المستشرقين من حيث المستوى الفكري. والواقع أن الأستاذ إبراهيم لم يقدم على الكتابة حول المعارف والفنون الإسلامية إلا بعد التعرف عليها بتمعن من منابعها ومبادئها مباشرة، والارتكاز إلى مراجعها والاعتماد على ثقته في ممثليها الأصليين، لدرجة أنها تعتبر، وزنا، ليس مجرد مصنفات فحسب، بل إنها تشكل بحق وحقيقة، جسرا في عصرنا الحالي، رابطا بين ماضي الحضارة الإسلامية وحاضرها، أو نافذة يطل منها الإنسان المعاصر على تلك الحضارة. ومن مميزات هذه المصنفات انها أصبحت، والحالة هذه، تلك الأداة الرصينة التي مكنت من التعبير في اللغة العلمية الحديثة بتعبيرها الجديد، عن المعارف والفنون الإسلامية الكريمة المقدسة. وهكذا لم يكن الغربيون هم الذين انفردوا بالاستفادة من هذه المصنفات عند دراستهم للحضارة الإسلامية من مختلف وجوهها فحسب، بل إنها فتحت للمسلمين أيضا باب المعرفة الجديدة للنهل من ثروة العرفان والجمال الخاصة بالحضارة الإسلامية. لذلك، ارتأينا أن يكون موضوع مقالتنا هو دراسة أهمية مصنفات الأستاذ إبراهيم المتعلقة بالمعارف والفنون الإسلامية. مع الكشف عن مغزاها، بالنسبة للمسلمين الذين يدرسون الحضارة الإسلامية من وجوهها المختلفة. وسترفق بهذه المقالة في النهاية، قائمة المصادر والمراجع (بيبليو غرافيا) من كتب الأستاذ إبراهيم ومقالاته. بناة المدن العتيقة للأستاذ: محمد المطالسي الهبري من بنى مدينة فاس؟ ومن بنى مدينة تونس؟ إحدى أجمل حواضرِ دارِ الإسلام. من بنى غرناطه، عاصمة الأندلس؟ ومدينة الأولياء السبعة، مراكش، المدينة الحمراءَ؟ من شيد مسجد القرويين؟ والزيتونة؟ ومأذنة الكتبية؟ من أقام تصاميم الفسيفساء والزليج وكل الحلل التي تكسو أرض وجدران وسقوف هذه الآثار التي يعجب بها الزوار؟ هذا الغنى الهندسي والتعدد الفني يقابله غياب صارخ لمعدي هذه المعلمات. فمبدعو هذه المآثر الخلابة للهندسة الإسلامية، يبقون عموما، مجهولين . من هم هؤلاء الذين بنوا قصر العنبرة بغرناطة أو مسجد حسان بالرباط؟ كيف كانوا يشتغلون؟ ما هي الأدوار التي أنيطت بهم؟ ومدى ما كان وعيهم بما يقومون به؟ وما هي علاقتهم بالعلم وأصحاب الجاه؟ سوف تظل، ولزمانٍ طويل، أسئلة من هذا القبيل دون أجوبة. فغياب سير حياة هؤلاء المهندسين وهؤلاء الفنانين يحول دون معرفة إمكان فهمهم لمهنهم، فهم طرق وأسرار عملهم؛ وستظل تحول دون فهم نزوعهم الجمالية، ثقافتهم الأدبية والتقنية وعلاقتهم بالدين. وكل هذه الأسئلة تنطوي على الاعتراف بوجود تقابل بين تصورين لعملية البناء. فهناك، من جهة، غفلة جموع الحرفيين الذين صنعواء، في الخفاء، تاريخ البناء، وهناك، من جهة أخرى، شهرة المهندس المعماري أو الفنان المقدم على أنه صاحب هذه المنشأة أو تلك. فما نعرفه في تواريخ المدن العتيقة هو المنشآت والوجهاء الذين أوصوا ببنائها وليس الفنانون الذين أبدعوها. وهكذا نتكلم عن الهندسة المرابطية أو الموحدية أو الناصرية أو المملوكية أو غيرها، ولا نتكلم أبدا عن عمل المهندسين أو المعلمين أصحاب الإبداع، الذين نوكل في كل ما يتعلق بهم لمجرد التكهن. والمؤكد، في كل الأحوال، هو أن أصحاب الآداب في العصر الوسيط لا يشيرون قط، حسب معرفتنا، للدورِ الاجتماعي والثقافي الذي لعبه بناة المدن العتيقة، واكتفوا بالإشادة بالمنشآت الهندسية على حساب الإشارة إلى أصحابها الذين، وعلى خلاف الانطباع الذي يتركه هؤلاء الأدباء، لم يكونوا مع ذلك مجهولين في مدنهم وأزمانهم. يلزمنا إذن تمييز ثلاثة أنواع من عمليات البناء: التنظيم العام للمنطقة المبنية من المدينة، يعني المنطقة الحضرية؛ تصور وبناء الفضاء الهندسي؛ وأخيرا إنتاج أشكال الزخرفة. نبدأ بالتساؤل أول عن هوية المهندس الحضري، على افتراض إمكان استعمال هذا الوصف الذي رأى النور في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر. إذا كان من الأكيد أن الجغرافيين المسلمين قد رسموا الخرائط، وأن علماء الفلك قد أقاموا تصاميم بناء المدن على طريقة تجعلها غير مستدبرة للقبلة، فلا مصدر يسمح لنا بالتأكد من كون ثقافة الإسلام في بناء المدن قد أنتجت تصاميم موجهة لها. وعلى العموم، فإذا عرفنا التصميم بأنه تمثل مسبق للمكان وصياغة موضوعية له، فإن الإسلام يمنحنا مدنا دون تصميم مسبق، حتى عندما تكون بعض هذه المدن نتاج إرادة أمير معين، كما هو الشأن بالنسبة للطابع الدائري لمدينة بغداد المشيدة في القرن الثامن. ومع ذلك فللمدن العتيقة نظام دقيق في مجالها الحضري وتناسق داخلي. وهكذا بينما نجد القصبة في خارج المدينة، نجد المسجد الكبير وسوق المنتجات النادرة في مركزها. وعلاوة على التمييز الديني والفصل العرقي الموجود في بعض المدن، يتم تمييز الأماكن الاقتصادية عن الأماكن السكنية، وتوزع الأنشطة الصناعية التقليدية حسب وظيفتها على جهات مختلفة من المدينة. فالمنطق الخاص لهذا التنظيم تفرزه، دون شك، حكمة عملي وحدس تجريبي مرتبطان بممارسات صناعية وتمثلات اجتماعية معينة. الواضح أن بناء مورفولوجيا المدن العتيقة خاضع للتقاليد أكثر من خضوعه للتقنين الموضوعي. وهو بذلك نتاج نظام اجتماعي خاص. فالشوارع والأزقة والدروب الموصدة، التي تتشكل بالتوازي مع عمليات البناء، تظهر في نفس الوقت مع إقامة المنازل. وهنا يلزم طرح السؤال التالي: إذا لم يكن هناك، كما لاحظنا، مهندسون للمدن الإسلامية أو سلطة مسؤلة عن تنظيمها المادي، فهل أقام الفقه الإسلامي، على الأقل، قانونا يخص هندسة المدن ويخضع له عمليات تقنين الفضاء الحضري؟ فمن الأكيد أن التجمع المكثف للمنازل وشبكة الأزقة المتداخلة، تخلق باستمرار مشاكل تتعلق بأحقية طرف على طرف في الولوج إلى مكان معين أو بوجوب الإصلاح على أحدهم أو ملكية جار للجدار المشترك مع آخر، أو إمكانية مد البصر إلى حرمات الجار، وكلها أسئلة لا يمكنها أن تغيب عن الفقه الإسلامي. يقدم لنا مخطوط ابن الرامي ، وهو معلم بناء من تونس القرن 14، بوضوح التقاليد الوسيطية المتعلقة ببعض نقط تقنيات البناء الملموسة وقوانينه. فمشاكل تنظيم الفضاء، بالنسبة لهذا المؤلف المالكي المذهب، مرتبطة ماهويا بمسألة »حقوق الجوار وواجباته المتبادلة«. فحرية كل شخص في الانتفاع بكل ممتلكاته والاستمتاع بها، شريطة أن لا يسيء إلى جيرانه، كانت هي الفكرة المهيمنة لهذا العهد. وإذا كان بعض فقهاء الإسلام الوسيط قد توسعوا كثيرا في الحديث عن وجوب الاحترام المتبادل بين الجيران، فإن نصوصهم لم تصل إلى حد سن قواعد محددة وواضحة لفن البناء. وحسب ابن الإمام، فقد كان القاضي، وأحيانا المحتسب، وهو صاحب مهمة تفتيش الأسواق، كما يكتب ابن عبدون ، هما الملزمين بالسهر على التطبيق التام والعملي لمستلزمات التقاليد، وهما مطالبان، معضدان في ذلك بمستشارين من أمثال ابن الرامي، بالحسم، أولا، في خلافات تتعلق بالجدران المشتركة، كما نص على ذلك المارودي ، وكذا حسم الاختلافات العويصة المتعلقة بالبيوت التي يطل بعضها على بعض. فكانا مطالبين بالسهر، مثلا، على أن لا يكون علو بيت من البيوت يسمح لأصحابه، خاصة الرجال منهم، من إلقاء النظر إلى بيوتات الجيران. وهما لهذا يجبران الناس على تسييج السطوح وعدم السماح بإعلاء بعضها فوق بعضٍ. كما يمنعان أيضا كل نشاط يؤذي السكان ضجيجه أو يلوث محيط حي سكني أو ينتهك حرمة مسجد قريب. وفي هذا الصدد يورد لوي ماسينيون خبرا عن عادة مغربية مفادها»أن الضجيج وأصوات المطارق على السندان تعتبران إزعاجا شديدا للمصلين وتهديدا كبيرا لأمن الصوامع. وهذا ما دفع بالمخزن إلى عدم السماح لأي حداد بفتح دكان إلا بعد إخضاعه للامتحان التالي: توضع بيضة فوق قمة الصومعة الأقرب من المكان الذي يعزم الحداد إقامة محل عمله فيه: فإذا اهتزت البيضة، تحت ضغط الاهتزازات القادمة من حانوت الحداد أمر هذا الأخير بالإقامة في مكان أبعد، وإذا لم تتحرك البيضة من موضعها سمح له بالبقاء حيث شاء «. ويمكن القول إجمالا إن غياب هيئة أو وسيط، يقوم بتصميم قبلي للمدينة وينظمها، يجبر هذه الأخيرة على أن تفرز، من تلقائها، قواعد وميكانيزمات تتولى شأن بنائها والتفكير فيها. ولنتساءل الآن عن هوية المهندس المعماري، من كان هذا الرجل؟ وهل يمكننا، بما أن الدور الشعبية كانت تبنى دون تصاميم سابقة، أي على غير منوال ودون الحاجة إلى هذا الرجل، هل يمكننا أن نسحب نفس القول على المباني المعقدة كالقصور والمساجد والمدارس؟ لم يكن لمنشآت المدينة العتيقة، عموماً وأيا ما كانت هذه المنشآت، فرد مبدع يوقع إنتاجه المعماري. كانت المدينة منتوج جمعٍ من الهيئات الحرفية المراقبة أحيانا ليس من طرف المهندس المعماري كما نتصوره اليوم، وإنما من طرف مسؤل عن العمل أو معلم حرفي. وعلى أي فإن تسمية مهندس غير موجودة في اللغة العربية الوسيطية. ويكفي تصفح قاموس لسان العرب للتأكد من ذلك. فكلمة المهندس، المشتقة من الكلمة الفارسية إندز، تشير، وعلى خلاف ما تحيل إليه اليوم، إلى المهندس المسؤول عن السقي. وبالفعل »فلم يجإ السكان إلى رجلٍ تابع دراسة علمية تقصد بناء المنشآت؛ لم يلجأوا إلى بورجوازي من وسط اجتماعي معين وذي ثقافة معينة على غرار ما كان جزءاً من علاقات الكتاب والأساتذه. لم يكن الرجل الذي تولى مسؤولية البناء غير معلم حرفي معروف في منطقته، على شاكلة ما يعرف في أيامنا بالمقاولين البسطاء «. نعلم أن بناء المنشآت التقليدية قد ارتبط مباشرة بالتجربة التي تراكمت عبر العصور. فتشييد بعض البنايات المعقدة، عدا التغييرات التي يمكن أن تدخل عليه أثناء البناء، كان يمتد أحيانا زمنا طويلا، زمنا يفوق حياة جيلٍ بكامله. وهكذا يتم توسيع حجم القصور والمساجد إذا ما خلت الأراضي التي تحيط بها، أو إغناء واجهات الزينة إذا سمحت الظروف المادية بذلك أو ما إلى ذلك. فبين الفكرة الأولية للبناية والانتهاء منها يتدخل العديد من الأشخاص في سيرورة البناء. ولقد كان الزبائن عموما هم الذين يلعبون الدور الأساسي في توجيه الأشغال ومراقبتها. فبعد الأتفاق مع أعضاء الأسرة، في حالة مالك البيت، أو المستشارين، في حالة أمير أو صاحب جاه، يلجأ الزبون إلى معلم بناء ويناقش معه شكل البناية وبنيتها وحيثياتها المادية، الاقتصادية، التقنية والجمالية. وعندها يرتجل المعلم أو المعلمون في الحين نفسه صورة المسكن. يبدأون، أولا، عبر خطوط مرسومة فوق السطح الذي يتم مسحه وإقامة علامات حجرية عليه، بتحديد زاويتين اثنتين: واحدة وسط الأخرى. تمثل الزاوية الداخلية بهو المنزل أو الرياض، وتمثل الزاوية الخارجية سور البناية. وقد تنأى البناية في النهاية عن الشكل الذي تصورت عليه في البداية. فأصحاب البيت أو المسؤل عنه، باعتبارهم من يزود الحرفيين بكل حاجيات البناء، يوعزون أحيانا بهذا التغيير أو ذاك، ويبقون بذلك على اتصالٍ دائمٍ بكل المهنيين المساهمين في البناء ويحضرون كل مراحله: من تصوره إلى بناء أسسه، فمراحل البناء الأخرى وحتى الزخرفة، إلخ... ويرافق البنائين مذ اطلاق الأشغال أصحاب مهن أخرى. ويعتبر النجارون أول المتعاونين معهم. وبعدما ينسحبون معاً، يخلى المكان للباصين وناقشي العود والصباغين. وقد يساهم حرفيون آخرون، مثل حفاري الآبار أو غيرهم، وبطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في مراحل أخرى من مراحل البناء. فعند بناء مسكن جديد، نبدأ بحفر الأسس بالمجرفة، حفراً مختلف العمق. ويعتبر هذا الحفر أول علامة تطال السطح الفعلي للتصميم. ويشكل التراب المستخلص من حفر القاعدة، والمكوم على طول المساحة التي يراد بناؤها، بعد تسويته، قاعدة تعلو سطح الأرض ببعض عشرات السنتمترات الموافقة لمعايير البناء التقليدي التي تلزم عموما أن يعلو سطح البناءة الزقاق. وبالانتهاء من القاعدة، يبدأ أصحاب النجارة في إقامة الهيكل والدرج. بعدها يقيم البناؤون الجدران وتعطى البناية شكلها العام. يخلى بعدها المكان لرصاصي السقف والأسطح ليتمكنوا من تغطية الطوابق. فهذا المنوال هو ما يعتمده كل الحرفيين، كل في مضماره، للإجابة على الضرورات التقنية التي تقتضي أحيانا مهارة جد محددة وإعطائها حلولا ملائمة. وبهذا فهم، حتى وإن أعطوا للأشكال الموضوعية والذاتية المتوارثة لمسة خاصة في ممارستهم يكتفون بإعادة إنتاجها. هكذا، وكغيرهم من المهنيين، يعبر محترفو البناء عبر »منشآتهم« عن ضرورات اجتماعية، تقنية ورمزية. لنتساءل أخيرا عن هوية الفنان، من كان هذا الرجل؟ يعتبر بناء المنشآت الضخمة للمدينة العتيقة، سواء المدنية منها أو الدينية، مختبرا واسعا ومستمرا للإنتاج المعماري والفني والثقافي. وهي تتميز عن المساكن الشعبية، التي تشكل معظم مباني المدينة العتيقة. ولا يترجم هذا التمييز على مستوى ضخامة البناء المعماري فقط، بل يتعداه إلى الطابع الاستثنائي، الذي يعبر عنه غنى المواد المستعملة في البناء وتعقده، والذي يشي بالطابع العلمي لأشكال زخرفته. ويبقى إنتاج الأشكال المعمارية، في معظم الأحيان، فنا مقصوراً على البلاط وعلى أغنياء التجار. وهكذا يبقى تطور الفن والهندسة، وكل تقدم للذوق، رهينا أولا بعادات الوجهاء. ويمكن تصنيف المواد المختلفة، التي يتوفر عليها مزخرفو واجهات البيوت والبنايات، لإكسائها ونحتها، حسب طبيعتها: التراب الناضج المرصع، الجبص، الرخام، الخشب، إلخ. وتقتضي كل مادةٍ من هذه المواد تخصصا معيناً وتقسيما محددا للعمل. وتبقى عملية تجميل الأعمدة والمساحات المبنية بحلل الزخرفة مقدرة أكثر تقديرٍ من عملية البناء نفسها. فالمعلمون الحرفيون »يزدرون الإسمنت ولا يقبلونه إلا كعماد للمساحات المراد تزيينها، في الداخل، بالزليج، أو الجبص المنقوش، أو الخشبِ المنحوت أو المقرنس «. هكذا فمعلم البناء، الذي هو أقل تقديراً من مصممه، ومن الفسيفسائي، والصباغ، والنحات، والجباص، ونقاشِ الخشب، وباختصارٍ من كل من يزين الواجهات، لم يشكل قط جزءا من حاشية الأمير. لقد كانت مهنة البناء، في الثقافة الإسلامية، فنا غير متطور. فسكان الحضر، وعلى غرار الأمير، لا يقيمون قط البناء كعلاقة مكانية بين الأجسام والمسطحات. وعلى العكس، فهم مغرمون بـ»الديكور« المجرد والمنقوش، مغرمون بغنى الفسيفساء والعمل الرقيق على الخشب. لقد كان المزخرفون، خاصة منهم الخطاطون والرسامون، يشبهون تقريبا بالأدباء. وأسعفتهم ثقافتهم التقنية والعالمة في تطوير عالمٍ مرئيٍ يتعقد أكثر فأكثر. واستطاع هؤلا، »الفنانون«، متأثرين في ذلك بالهندسة والفلك وغيرهما، أن يطوروا قائمة من الأشكال الخاصة بالحضارة العربية الإسلامية، قائمة تظل مع ذلك في علاقة حميمة مع السياق الاجتماعي والمعايير الدينية التي بدونها لا يمكن تصور مجموعة كبيرة من هذه الصور والمنتوجات المجردة. ألم يسبق أن قدم هذا العالم كتعبير فني مستقل؟ وبالفعل، فالإبداع الفني لا يمارس هنا من أجل ذاته، بل، عموماً، من أجل تزيين ركن ما أو موضوع انتهي من تشكيله. فوجود هذا الموضوع سابق على وجود صورته الجمالية التي تأتي بعد ذلك لتحتويه، زيادة على أن تحقيقه لم يتم من أجل وظيفته الجمالية، وإنما في علاقة مع المنفعة المنتظر منه. بذلك يكون »فنانو« الزخرفة في العالم الإسلامي قد تركوا محاكاة الطبيعة واتبعوا قواعد مغايرة للتقليد الفني بالمعنى الصحيح. لم يكن التجريد، مطلقا وخلافا للمعنى المتداول اليوم، مستنتجا، من ماهية الفن نفسها. بل كان، وبكل بساطة، احتراما لمعايير وتحقيقا لفن مشروع اجتماعيا. وهكذا نلاحظ الوشاج الذي يربط »الفنان« بالضرورات الاجتماعية وأن ليس في وسعه التعبير عن مقصده الجمالي إلا في ارتباطه بالحلال والحرام. يتضح لنا إذا أن مفهوم الفنان أو المهندس المعماري يتضمن وظائف ثقافية ومنزلة اجتماعية جد محددتين. فالمعماري مثلا هو من يقيم للبناء تصاميم، يعني نماذج تحتذى، وهو من يتابع وينسق، في وقت محدد، مختلف الأشغال، من بداية البناء وحتى نهايته. إلا أنه ومع بداية تحقيقه لاستقلاله تجاه المجتمع، أضحى الفنان يوقع عمله في شموليته ودون تبعيضه. وعلى هذا المستوى، فلقد اتخذت وظيفته الجديدة، تماما مثل وظيفة مهندس المدن، معناها الاجتماعي والثقافي الصحيح المنعدم في المدينة العتيقة. إن التردد الذي ينتابنا في استعمال هذه المفاهيم، الغريبة كلية عن روح العصر، لا ينقص من قيمة بناتنا. السنة الحية في الفن المعماري (ملخص) كامل خان ممتاز لقد اتضح من مصنفات الإستاذ إبراهيم (تيتوس بوخاردت) أن الغرض من مكانة السنة في الفن المعماري كان يتمثل في توفير وسيلة للإنسان يسد بها حاجياته الروحية والإنسانية. فلهذا السبب، كان الفن يذكر الإنسان بواجباته كإنسان وبما يجب عليه القيام به في سلوكه الديني. وكان الفن يشير إلى هدف حياته وينير السبيل إليه. ونحاول، من خلال مقالتنا هذه، أن نبين أن ما تم استعمال من الوسائل والأساليب الفنية بهدف إبلاغ هذا المعنى ضمن الفن العماري والبناء السني، لم يكن خاصا بالفن المعماري فحسب، بل كان كذلك رمزيا. وإذا كانت العناصر الخاصة منها بالفن المعماري عالمية ولا تختلف عن غيرها، إلا أن العناصر المعنوية الرمزية كانت مخصوصة بالتمدن والحضارة، وتختلف باختلاف الأماكن والأزمنة. وإلى جانب هذا، سندرس في هذه المقالة أوجه الشبه التي ترد عامة حول تحقيق الفن المعماري الأصيل (Traditional Architecture) في عصرنا الحالي. ففي ردها، نستدل بـ: • أن احتياج العالم إلى رسالة الإسلام التقليدي لم يكن من قبل مثل احتياجه إليه اليوم؛ • أن أسلوب التعبير الرمزي للهيئات الفنية ما زال حيا يؤثر في أكبر مناطق العالم الثالث، وخاصة في العلام الإسلامي؛ • أن الأوضاع التقليدية ووسائل التعبير ما زالت ذات معنى وأهلا للثقة ولا يزال الإنسان في حاجة إليها إلى اليوم؛ • أن الفن المعماري الإصيل لا يزال قائم الذات، مع توافر مواد البناء في كل مكان بتكلفة أرخص، بالمقارنة بوسائل البناء الجديدة المصنوعة بالأساليب الصناعية الحديثة؛ • أنه يتعين أن تتاح الفرصة للخبراء والمهندسين المعماريين كي يتفهموا تعبير الفن المعماري الأصيل البديل نظريا وعمليا وأن يشملوه في تدريبهم بل وفي عملهم. وأما ما يتطليه العامة من الحداثة والإبداع والتففن، في الفن المعماري، فإن سببه الرئيسي هو الضغط الكبير والحث الشديد من قبل وسائل الإعلام العالمية، والتي فرضت رعاية لصالح النظام الرأسمالمي العالمي وتجارة الصناعة. انعكاسات وحدة الوجود في الفن السلجوقي محمود إيرول قليج يعتبر تيتوس إبراهيم بوخاردت من مفكري عصرنا الأجلاء، وقد أصبح وسيلة لاجتماعنا هذا، والذي صرح في هذه البقاع قبل ست وعشرين سنة... أن العلم والفن يعتبران وجها العرف الواحد بنفسه عامة، وأن الفن والصناعة لا يستحصلان بتعليم الكلمات، بل بعقد المناسبة التقليدية بين الصانع المتعلم والمتقن الحاذق... كما قال أيضاً.. إن وظيفة الفنان هي أن يعكس فنه، لذا يعتبر الفنان الماهر هو من يفني موجوديته في الشيء حين يعكسه. ويبدي بعدئذ أن إتقانه لذلك الشيء يقتضي معرفته وخبرته لذلك الفن. وعند تعلمنا القانون الميتافيزيقي الذي هو أساس التظاهر في الوحدة والكثرة والتنوع، تأخذنا الحيرة بأن الفنانين المختلفين في شتى فروع الفن قد استسقوا من حوض المشاهدة نفسها، وذلك حين نرى فنهم اعتباراً من جامع السليمية في مدينة (أدرنا)، وجامعة قيروان، والقبة الرائعة لجامع الشيخ لطف الله في »أصفهان« إلى أروقة مساجد »المغرب« وبيوتها. وهذا يرينا بدوره الروح المجردة فيما وراء الأشكال المختلفة للفنون المشخصة. فالعارف والخبير عندما يحاول ليعرفكم بأنفسكم، يسعى أيضاً أن يعلمكم بالأبعاد الأنفسية لديكم مع المراتب الآفاقية في العالم الخارجي، والعلاقات التقابلية بين ذينك العالمين. وعند تعليمه إياكم تظاهر الوجود وتشخصه مرتبة تلو الأخرى، فأنتم بدوركم تشاهدون بالذات الانتقال من الوحدة إلى الكثرة ومن الكثرة إلى الوحدة. فنتيجة هذا التعليم الذي تتلقونه بمعناه الأفقي، تسمون بدوركم عكس هذه الروح في جميع فعالياتكم واختراعاتكم الأفقية. وليس من التصادف أن نرى وجود مسودة »تاج محل« الذي هو في الهند ضمن كتاب »الفتوحات المكية« للعارف الكبير ابن العربي، ووجود موتيف »شجرة الحياة« الذي هو على الباب الرئيسي لضريح مولانا جلال الدين الرومي في »قونيا« ضمن القرآن الكريم وفي كتابه »المثنوي« وكذلك ليس من التصادف أن نرى الأعداد الداخلية للقباب الوسطى والقباب الجانبية وجميع أروقة جامع »حكيم أوغلو علي باشا« الذي هو في إستانبول حسب رقم (21) أو مضاعفاته، وكأن هذا المبنى يعبر عن إكساء الأحجار والتراب بـ»البسملة«، وإن هذا الأمر قد استلهم من كتاب »أهل الكهف والرقيم في شرح بسم الله الرحمن الرحيم« للعارف الكبير عبد القادر الجيلي. إن بحثنا عن الحياة الثقافية السلجوقية التي قد لامستها أنفاس المتقنين العملاقة من أمثال ابن العربي، وصدر الدين القونوي، ومولانا جلال الدين الرومي، وأوحد الدين كرماني، وعن مدى انعكاسات هؤلاء الفنانين الباطنيين على التأثيرات الفنية في تلك المرحلة، لا شك قد تواجهنا شبكة من تأثيرات تجلب الانتباه. وحسب معلوماتي أنه ليست هناك دراسة شاملة مستقلة حول هذ1 الموضوع. وذلك فالموضوع يستدعي حسب ضوابطه الداخلية، ومبناه ذي الأوجه المختلفة، فكراً تصوفيا قوياً، ومعرفة في تاريخ الفن والتناسق، وإلماما بفنون العمارة والهندسة وأمثالها من المعلومات التقنية. ولقد فقد المثقفون المسلمون منذ بداية العصر الخليطة الفكرية (بنية العقل الإسلامي) الذي يخصهم، ونتيجة ذلك قل فيهم الاهتمام بالعرف، وانجذبوا تجاه موضة الحداثة، فمن الأسف الشديد أننا نرى من العسر أن يحقق هؤلاء في الوقت الحاضر هذه الدراسة. ومن الممكن أن نجد بعضاً من الخبراء الذين يدرسون حول »الفن السلجوقي« سواء في تركيا أو بقية الدول الإسلامية. إلا أن من يتناول الموضوع من حيث الترابط الميتافيزيقي المذكور آنفاً، لا يمكن الحصول عليهم. فنحن بدورنا أردنا في تبليغنا هذا أن نجلب أنظار الخبراء لهذا الجانب من خلال اثنين من الأمثلة الميتافيزيقية القصيرة جداً في الحياة الفنية السلجوقية في بلاد الأناضول. موجز العرض: انانداكا. كوماراسوامي. عالم عامل أهمية تفهيم الاتصال بين المعلومات والمعاملات في حضارتنا. قليل ما هم أولائك الذين خلفوا خلال القرنين الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي، إرثا على نفس الجانب من الثرا، والشمولية كالذي خلفه أنانداكا. كوماراسوامي (العالم الهندي الأصل)، لقد كان عمله المثالي كمحافظ متحف بوسطون (أمريكا) للفنون العريقة، يرمي إلى تفهيم المعنى العميق الذي تنطوي عليه ملامح المجتمعات الأصيلة ومجاليها. وفي الواقع، وعلى حد تعبير أناندا الذي غالبا ما كان يقول: "كل أنسان هو في الحقيقة صانع من نوع خاص، وليس الصانع إنسانا من نوع خاص"، فإن هذا المعنى هو الذي يوجه النشاط الإنساني الذي يمارسه كل شخص، وذلك كائنا ما كان هذا النشاط. إن الذين لهم أصول متجذرة سيان في ثقافة أو في علم عريق سرعان ما يستوعبون مباشرة مفهوم قطعة موسيقية أو قصيدة شعرٍ أو رسم كتابة جميل. لقد كان باستطاعة أنانداكا. كوماراسوامي أن يدرك ويفهم وجود لغة واحدة نابعة من ثقافات عدة: تلك هي لغة الإشارات والمفاهيم العالية عند من دأبهم التفكر. أما اليوم، فإن مفاهيمه لا تتعرض للإنكار إلا من قبل من لا يرى معنى لأي شيء كان، وهم أولائك الذين اعتادوا الإجابة سلباً على أي تساؤل خطر لهم ببال، ظانين مع ذلك أنهم قادرون على إقامة دليل معقول على أن الوجود كله عدم في عدمٍ. إن من شأن منهاج متماد في التدمير كهذا، أن ينتشر في المعمور عن طريق الفصل التدريجي بين الأشياء والأعمال الإنسانية وبين مفاهيمها. وإذن، فهو الفصل بين الحقيقة والمنفعة، من التجريد والترميز، ومن الموضوعي والذاتي، وباختصار، من جميع الأعمال والأقوال والأفكار. أما فيما يخص أنانداكا. كوماراسوامي، فإن تساوق جميع الثقافات يظهر جليا للعيان فيما يبذله من مجهود لوضع صلة وصل بين هذا الملامح المتقابلة، بواسطة تركيب معبر وبليغ، في معارضة من اختاروا الفصل المتعذر الانحلال في هذه الميادين وآثروا اللغو أساسا لكلً أمر. ويرى أناندا أن التساوق بين الأشياء ومفاهيمها يتعين تحقيقه وجوباً، ببذل مجهود تفاهم مبني على أساس متين تدعمه التجارب الفكرية الخاصة بالحضارات العريقة الكبرى. هكذا يبقى سبيل التفهيم إذن هو مفتاح العمل والتأمل الفني في جميع الملامح الإنسانية، وهو السبيل الذي جاءت الإشارة إليه بتفرد في آثار هذا العالم العامل وحياته. فيكتور باليجا دي بوستينزا من الفن إلى الأدب علوم بوخاردت وتحدي الإحسان في الحياة اليومية جايمس موريس تأثرت كتب تيتوس بورخادت، شأن مؤلفات زملائه في مدرسة »الأبحاث العريقة« بالتوق العميق إلى علوم كثيرا ما طالها التهديد والوعيد على عهدهم. وقد كان لهذه الكتب، وكأنها صرخة إنذار، تأثير بالغ الأهمية، حيث مكنت من تشجيع المجهودات الرامية إلى تقييم تراثنا الثقافي والفني، إن في الغرب أو في العالم الإسلامي. ولكن، من الممكن أن نتساءل، بالنظر إلى المجهودات المبذولة لإنقاذ العينات التي يستهدفها الانقراض، عما إذا توفقت هذه المجهودات أو حتى عما إذا كان من الممكن أن تتوفق حقيقة في صيانة جوهر هذه العلوم (وليس فقط بعضا من أشكالها المظهرية)، التي هي لديه من الأهمية بمكان. وإذ أنزع إلى أن يكون إلهامي منبثقا عن مظهر آخر من أعمال بوخاردت. ترجماته وأبحاثه بخصوص العلوم الرئيسية للمتصوف والمفكر الكبير ابن العربي الحاتمي. فإني أود أن أبحث مشكلة هذه العلوم عن كثب، في عهد غالبا ما يبدو فيه وكأن جميع العلوم الدينية (حسب الفهم البوخاردتي) هي نفسها في طريقها إلى الانقراض. وأريد، بداية، أن أطرح تساؤلات حول السياق التاريخي لهذا الاهتمام البالغ بالعلوم المتوفر لدى بوخاردت وأصحابه، على أن أفحص عن قرب، الضياع العجيب الذي تتعرض إليه الأبعاد الإحسانية. سيان الجمالية منها والعقلية. في مجال تصوراتنا العصرية للدين. وبعد هذا، فإني أرغب، انطلاقا من هذه الوضعية التاريخية الفريدة من نوعها على الأصح (والتي لا مفر منها على كل حال)، أن آتي على إبراز بعض الخلاصات، على أساس جملة من الأحاديث الشريفة الشهيرة، أو على الأقل، بعض الأوامر النبوية الخاصة بالدور الجوهري للإحسان (في المفهوم النبوي)، ليس فقط للفنانين والمبدعين، بل كذلك لفائدتنا كلنا، نحن، في كافة أوضاع حياتنا اليومية. فقبل كل شيء، ومن منظور تاريخي، لا يستساغ لأي كان أن ينكر الضياع الملاحظ في كل مكان وعلى مستوى العالم والذي أتلف كافة أنماط الحياة الأصيلة. بما فيها العلوم الأصيلة والفنون والطقوس الدينية المقامة في الحضارة الأرضية التي حددت معالم الحياة الإنسانية على مدى ألفيات عديدة خلت. ذاك ضياع قوض في كل مكان من العالم أشكال الحياة والممارسات الاجتماعية، التي كان الإحسان وذكر الله في أعمق معانيه يضطلعان فيها بدور مركزي. إنه ضياع مضنٍ مر بالكثير منا ولا نزال نعاني منه مباشرة إلى أيامنا هذه. ولكن، إذا صح القول بأن الأشكال الأصيلة لهذه الحياة الإحسانية قد اضمحلت، وبأن ميراثنا التاريخي أصبح ممتنع المنال، فهل يعني ذلك أن واقع حقيقة الجمال وواقع الحق قد عرفا نفس المصير؟ يمكن بطبيعة الحال أن يخامرنا شك بأن الأمر ليس كذلك... ويمكننا في هذه الحالة، أن نطرح سؤالا، لمعرفة ما إذا كانت المهمة الرئيسية. لكل عبد ولكل إنسان. منحصرة في إنقاد متاع ضائع (أو متلف) أو، عوضا عن ذلك، في ابتكار أنماط حياتية وإحسانية أسهل منالا وأيسر تكيفا مع الشروط والإمكانيات الحقيقية المتاحة لحياتنا العامة في وقتنا المعاصر. ومن وجهة النظر هذه، من المؤكد أنه ليس من قبيل المصادفة أن يكون تيتوس بوخاردت قد أمضى كل هذا الحيز الكبير من وقته، خارج أبحاثه وتآليفه الفنية، في دراسة أعمال الشيخ الأكبر الصعبة وترجمتها. ذلك لأن المسلمين عاشوا في القرون الماضية. وخاصة من بينهم أولائك الذين ابتكروا وأسسوا كل هذا الكم الهائل من العلوم الفنية والاجتماعية والثقافية، في العصر الحافل بالصعوبات الذي أعقب الخراب المحدث جراء الهجومات المغولية والصليبية. إنما كان دأبهم الرجوع دوماً إلى علوم الشيخ الأكبر ليستلهموا منها أعمالهم الهائلة العجيبة، المتمثلة في الإبداع وتجديد البناء. وكأننا بصاحبنا بوخاردت نفسه وقد تهجس الأهمية القصوى التي ينطوي عليها الأنموذج الأكبري. وليس في العالم الإسلامي فقط. في مواجهة التحديات المنقطعة النظير التي تكتنف هذا العهد المليئ بالتحولات الإجمالية. ولي رغبة هنا، في معرض الدور الرئيسي للإحسان في كل لحظة من حياتنا اليومية، أن أثير فقط حديثين شريفين معروفين جدا وغالبا ما استشهد بهما الشيخ الأكبر، هناك أولا حديث جبريل الشهير، بخصوص الأبعاد الثلاثة للدين (الإسلام والإيمان والإحسان)، الذي يعرف فيه الإحسان والتحقق بالجمال والخير معا على أنهما الهدف والقاعدة المركزية لكل حياة دينية، ونصه: »... أن تعبد الله كأنك تراه، إن لم تكن تراه إنه يراك«، سيما والحال أن السؤال العملي الرئيسي: »كيف يكون من الممكن رؤية الله« يوحي بحديث قدسي آخر على نفس الوتيرة من الشهرة، وهو الحديث الذي يسأل الله فيه عبده يوم القيامة: »يا ابن آدم مرضت فلم تعدني،.... استطعمتك فلم تطعمني،.... استسقيتك فلم تسقني«. هكذا يذكرنا هذا الحديث بالحضور الإلهي الذي يظهر هنا جليا للعيان في الأحوال المطابقة لكل كائن إنساني »عبدي فلان«. ومتى ما جمعنا بين هذين الحديثين، فإنه يتضح بأن الجواب العملي على اختفاء العلوم الوهبية البوخاردتية أنها ليست غامضة ولا نائية: ويتمثل التحقق من طريق الإحسان، داخل حياتنا اليومية، في أخذنا. الضروري والوقتي والوضعي. بعين الاعتبار لهذه الحاجيات الإنسانية الأساسية، من جهة، ومن أخرى، في استلهام وتحقيق الجواب الملائم. وإذا ما وقع التساؤل عن مصدر هذه العلوم الوهبية، اتضح الجواب عليه بأن الإحسان هو الأدب. بجميع المعاني التي تحتملها هذه العبارة التي لا تنضب. كما أن الوصول إلى الأدبيات الإجتماعية والتاريخية إنما يتحقق بتجميع ونشر كافة التجارب الجمالية هذه، التي هي أصلا وبالضرورة فردية مبدعة. وكائنة ما كانت مجالات حياتنا النشيطة وسواء كان المرء فنانا أم لا، فإن تحققه الواقعي بالإحسان يتوقف على أربعة شروط فردية واجتماعية وسياسية في الوقت نفسه، يمكن ذكرها باختصار فيما يلي: الجهاد (أو الاجتهاد) بالمعنى الأولي والقرآني لهذه الكلمة الذي ينطوي على الغاية والقصد منه »في سبيل الله«، الإبداعية أو العمل الإحساني الأصلي الذي يناسب، بطبيعة الحال، الحاجيات والشروط التي تفرضها كل حالة؛ ذلك هو البحث عن وهب رباني مستلهم لا يمكن البتة ممارسته ولا اكتشافه دون الحاجة إلى الضرورة المصاحبة للاختيار وكذا السياق التربوي للتجارب والأغلاط، الاختلاف الناتج عن الوسائل والأجوبة، حتى في حالة وجود شروط مماثلة، وأخيرا، التسامح الفعلي والإيجابي لهذا السياق الضروري للإبداع ولاختلاف التعبير. إن الفنانين والمبدعين والعلماء والباحثين. أيا ما كان مجال اختصاصهم. موقنون جميعهم بهذه الشروط الضرورية للإحسان المثمر، والتعامل البالغ الصعوبة في حياتهم العملية بالإحسان والاجتهاد. ونحن، إذ نجتمع للاحتفال معا بثمرات إنجازاتهم في الماضي، فقد أضحى لزاما علينا أن نتساءل آنئذٍ عن المانع الذي يحول دون قيامنا في أيامنا هذه باستكشاف ووضع شروط هذه الإبداعية الاجتماعية والأخلاقية والدينية في حياتنا الذاتية اليومية. الفنون القرآنية للخط والمنمنمات عرض بصري للدكتور مارتان لينكس يستهل عرضنا بنماذج من أول نسخ كامل الإتقان في الإسلام يستمد اسمه من مدينة الكوفة العراقية. ويرجع الأنموذجان اللذان نطرحهما هنا إلى القرن الثالث الهجري الذي يشير إلى تطورين بارزين عرفهما الخط الكوفي، الأول بالمشرق والثاني بشمال إفريقيا، التي سنعمل لاحقا، وانطلاقا منها، على إبراز بعض النماذج، مع جميع ما يتعلق بالمغرب، وستتبع نماذج الكوفي الأصلي، نماذج من التطوير الشرقي، مستقاة في أغلبها من مخطوطات القرن الخامس الهجري. وبعد ذلك، سننتقل عبر القرن الثامن الهجري إلى العراق والفرس ومصر. وفي هذا العهد، بلغت المنمنمات أوج كمالها. وأخيرا، سوف نبتدئ بالكوفي المغربي، بإظهار صفحات من أجمل المخطوطات القرآنية الغربية، التي كتب بعضها في هذه المدينة ذاتها. تيتوس بوخاردت (1984—1908): ذاكرة شخصية لاستيفانو بيانكا ترجمه: محمد عثمان فضلي— مراكش هذه الصفحات القليلة التي كتبت بمناسبة إحياء الذكرى السبعين لميلاد تيتوس بوخاردت، أحد شخصيات هذا القرن الأكثر تأويلا للفكر والعلوم والفنون التقليدية، لا تطمح إلى رسم صورة شاملة له رجلا وكاتبا وحكيما. إن الغرض منها مجرد عرض بعض الذكريات الشخصية والانطباعات والتجارب التي برزت من خلال تعاوننا الذي دام عدة سنوات. التقيت بتيتوس بوخاردت أول مرة حوالي سنة 1970 حينما كنت محتاجا إلى نصحه وأنا مهندس معماري حديث التخرج، كنت توَّاقا لمقابلة الشخص الذي كانت كتبه قد تركت في أثراً كبيرا. كان لسفري الذي دام شهرين إلى المغرب أواخر الستينات أكبر الأثر على مجرى حياتي. لقد أربكني اكتشاف البيئة المسلمة التقليدية وهي تنبض بالحياة بالمدن المغربية العتيقة. العديد من أفكاري وقناعاتي وأنشطتي المهنية اتجهت وجهة جديدة، وقررت من أجل تخفيف الصدمة الخوض في بحث خاص عن الثقافة الإسلامية، والتخطيط للأطروحة التي سيلازمني موضوعها لاحقا، عن التفاعل بين الأنماط الحضارية والشكل الحضري بالعالم الإسلامي. في الوقت الذي كنت أبحث فيه عما كتب في الموضوع، وقفت صدفة على أعمال تيتوس بوخاردت وبخاصة كتبه عن فاس وأعلام الصوفية المسلمين والفن الديني في الشرق والغرب. لقد وجدت فيها وبأدق وأرق عبارة وألطف طريقة كل ما كنت قد أدركته بالحدس في تجربتي الجد محدودة عن الثقافة الإسلامية. كانت قراءة كتبه بمثابة الأخذ من المنبع، الشيء الذي جعل الكثير من مؤلفات المؤرخين الآخرين حول الحضارة الإسلامية تظهر »مشوقة « في أحسن أحوالها، لكنها غالبا ما تكون سطحية فاترة، وبعبارة بسيطة غير متصلة بالموضوع. فمن خلال طريقته الملهمة في تقدير المفاهيم والتعابير الحضارية، كان قادرا على إضفاء معاني حقيقية على أفكار لولا ذلك لظلت نظرية مجردة. وفي الوقت نفسه فإنه كان يثير وقائع حياتية أساسية إلى درجة إكسابها خاصية روحية. حصلت على عنوان تيتوس بوخاردت عن طريق ناشره، فكتبت إليه عن تجربتي وقصدي سائلا إياه عن إمكانية استقبالي وإبداء النصح لي بخصوص أطروحتي، وجاء الجواب من دون كثير انتظار بخط يده المضبوط الحسن الجميل، وتم تحديد موعد بمكتبه ببولي Pully قريبا من لوزان Lausanne، المكان الذي كان يدير منه عمليات النشر التي كانت تقوم بها الأورس كراف فرلاك Urs Graf Verlag بما في ذلك إنتاج النسخ طبق الأصل لمخطوطات القرون الوسطى الأولى، وكذا سلسلة شتاتن دس كايستس Statten des Geistes الذائعة الصيت التي تنشر كتباً بعضها من تأليفه هو عن الأماكن والمدن ذات المغزى الروحي الكبير كفاس Fez والمدينة الفرنسية شارتر وساينا واستنبول وأتيوس باليونان. إحدى دور النشر المزدهرة وقتئذ. كما أن الرجل في بنية رأسه وجسمه كان يظهر منقبضا نحيلا ذكرتي بمنحوتة رومانسكية أو جرمانية قديمة Gothic تعكس التركيز الروحي الذي أصبح طبيعته الثانية. لكن لم يكن يثير الرعب ولا كان متظاهرا بشيء البتة. لقد شعرت بدفء داخلي وتعاطف خفي، وأدركت فورا بأن هذه الفرصة لم تكن ملائمة للحديث السطحي وإنما هي اختبار حميمي وجب على اجتيازه. تبعت هذا اللقاء الأول لقاءات أخرى قليلة كنت أقدم وأناقش معه خلالها بعض المفاهيم والنصوص والرسومات. كان يمدني باقتراحات من أجل قراءاتي الإضافية. لكن ما أدهشني هو أنه لم يكن يبدي أي اعتراض بخصوص كتاباتي التي لم تزل غير ناضجة. كان دعمه واتخاذه قدوة لي كبيرين إلى درجة لا يجد الإنسان معها بدا من أن يجد ليتحسن وإن كان واعياً بعجزه عن تحقيق المستوى المطلوب الذي حدده له. ولقد شعرت بالاعتزاز والارتباك بعد ذلك حينما خرج كتابي إلى الوجود أخيرا، وسمعته يثني علي أمام الآخرين. أخذت علاقتنا منعطفا جديدا حاسما في منتصف السبعينات حينما تمكنت من العمل معه جنبا لجنب لما يقرب من ثلاث سنوات في مشروع المحافظة على المدينة العتيقة فاس. كانت المنظمة العالمية للتربية والعلوم والثقافة قد طلبت منه سنة 1972 أو 1973 أن يضع جرداً للإرث المعماري لفاس. وإدراكاً منه بأن التدوين وحده ليس كافيا فإنه دافع لإنشاء خريطة تامة شاملة من أجل توفير إطار واقعي لحماية المدينة العتيقة. ولقد أصبحت عضوا في فريق المستشارين المتعدد الاختصاصات التابع للمنظمة المذكورة المعهود إليه بهذه المهمة ما بين 1978— 1975 تبعا لتزكية أولية من عنده. لا شك أن قرار تيتوس بوخاردت بعطاء ما بين خمس إلى ست سنوات من حياته لقضية فاس كان بدافع شعوره بأنه مدين، واعترافه بالجميل، لبلد ومدينة يرجع لهما الفضل في كثير من نموه الفكري أواخر الثلاثينات وأوائل الأربعينات: وإنني لأعتقد فوق هذا أن ذلك كان بدافع تحد ومجادلة بأن فاس تعتبر أفضل نموذج قائم حوفظ عليه لمدينة إسلامية تاريخية يمكن أن تكون مثالا لكيفية استمرار وتطوير شكل حضاري تقليدي من دون أن يفقد خاصيته الجوهرية. وبالرغم من كونه محافظاً ملتزماً فإنه كان واقعياً إلى حد اقتناعه بأنه وجب عليه الإذعان لضرورات المعاصرة من أجل صياغة وترميم ما هو قابل لذلك من المدنية العتيقة، لكنه كان على أهبة الاستعداد لمقاومة نوع معين من العصرنة يفرض النماذج والطرق الغربية من دون تقييم أثرها أو تكييف تركيبها المادي للحاجيات والشروط المحلية. لقد أمدت أفكاره المعبر عنها غالبا بوضوح مثير للمشاعر فريق المعماريين المحترفين والمصممين بإرشاد نفيس. وجد فريق منظمة اليونسكو مقرا لعمله في دار القضاء في دار القضاء لأيام الحماية (1) المحكمة القديمة لباب الحديد، التي هي عبارة عن بناية تقليدية مزينة بها العديد من الحجيرات الفردية التي تحيط بفنائين وممرات ذات أقواس وأعمدة. كان تيتوس بوخاردت يشغل إحدى تلك الحجيرات وكان دائما يقول بأن ذلك المقر يعد تحسناً كبيراً بالمقابلة مع "قفص القرد Ape Cage" الدقيق الصغر الموجود على مدخل متحف البطحاء والذي سبق لوزارة الثقافة أن قدمت له. عمل تيتوس بوخاردت على مدى هذه السنين بأقصى ما يكون من الثقة والضمير الحي. كان دائما في المتناول في الزمان والمكان الذي يحتاج إليه فيه. لا غرو أن في هذا ما يجعل المرء يعترف له بالامتياز بكل سرور. لقد مر علي بعض الوقت قبل أن أكتشف أنه وبجانب العبء الكامل لهذه المهمة فإنه وجد الطاقة الإضافية وقت فراغه لتهيئ "مهرجان العالم الإسلامي" الذي نظم سنة 1976(كان تيتوس بوخاردت أحد القوى الروحية القيادية وراء ذلك الحدث) وكذا تأليف كتابه حول "الفن الإسلامي: لغة ودلالة". سمحت لي فرصة العمل جنبا لجنب مع تيتوس بوخاردت أثناء تلك السنوات بفاس أن تزداد معرفتي به وأن ألاحظ بعضا من طرقه الكثيرة للتفاعل مع الأخرين. كان الأمر ساراً وفي بعض الأحيان مسليا أن يرى الإنسان كيف أنه كان يتمتع بالاحترام حتى من أولئك الذين لا يجمعهم وإياه إلا الشيء القليل، أو كانت مواقفهم جميعا مختلفة بالأساس. لم تكن طبيعته الاستبطانية لتمنعه من أن يكون مفاوضا داهية أو يكون رده لاذعا إذا كان ذلك ضروريا، دفاعا عن رأيه أو على القضية الأسمى. كان لا يباشر المناقشات الجدلية إلا نادرا، وغالبا ما تسقط دعوى محاوريه، كاشفة ضعف مقدماتهم المنطقية، لمجرد ملاحظة له خاطفة مأخوذة من مجال معرفي لا يألفه زملاؤه أو لا يشكون فيه. كان يدهش المعاريين بالفريق في بعض الأحيان بقدرته على الإعراب عن أفكاره بواسطة رسوماته اليدوية الرائعة. القليل منهم يعلم أنه كان ابن نحات، وبأنه كان فناناً موهوبا ذا شعور فطري بالعمليات الإبداعية. لقد سمح له هذا الحس المرهف المنضم إلى معرفته بالتقاليد المستترة أن يحصل على مدخل لا يضاهي للحرفية كأساس للفن الإسلامي. كانت له طريقة مهذبة رفيعة إن لم أقل رسمية للتعامل مع السلطات المغربية، لكنه أصبح غير موهم في السنوات الأخيرة من عدم فعالية الإدارة المركزية بسبب حسد تافه أو حاجة إلى تعهد مستمر. إن مشاهدته في تعامله مع سكان المدينة لمتعة خاصة. كان لدى الناس البسطاء إحساس غريزي بنفوذه وهالته الفريدة، وأحيانا أبانوا عن احترامهم وتبجيلهم له في إيماءات مؤثرة. لا أنفك أفكر حينما كنت أرافقه بأنه كان يتجول عبر المدينة العتيقة في قناع غربي، لازلت أذكر أنني كنت معه بالأسواق خلال اليوم الأخير قبل مغادرته، كان يختار جملة من الجلاليب الصوفية لأخذها معه إلى سويسرا، كان ذلك بعناية واجتهاد. وما دام قد اشترى أكثر مما تسعه حقائب سفره فإنني لا زلت أحتفظ بواحدة منها كهدية من عنده. خلال العام الأخير من مقام تيتوس بوخاردت بفاس أصبحت وإياه وحسن فتحي وآخرين مستشارين في التخطيط لبناء جامعة جديدة بمكة (المكرمة) (1981—1978). ونظرا لولوع السلطات السعودية بالفعالية الأمريكية فقد اختارت شركة سكيدمور أونكس ومريل بشيكاغو ((SOM ليكونوا مخططي المشروع ومهندسيه المعمارين. وعينت بعد ذلك لجنة استشارية أوكلت لها مهمة الإشراف على التصميم الفني وغرس المباردئ الأساسية للمعمار الإسلامي. لم يكن إنجاز هذه المجموعة المتألقة بالأمر السهل بالنسبة لنا. لقد أبدت الشركة حسن نيتها وأرهقت جهودها بحرق "burned" العديد من المهندسين المعمارين خلال القيام بهذا العمل. مضى زمن قبل أن يدرك الفريق الأمريكي بأننا لم نكن نبحث عن مشاريع تخطيطية لامعة في رداء إسلامي أو صور منقولة عن بنايات تاريخية — بل على ما يجسد روح الإسلام، بواسطة القياس والتناغم والنسيج الحضري والعلاقة المتبادلة الصحيحة بين المساحة والمبنى والحجرات. كانت الاجتماعات مع حسن فتحي عاصفية. لقد ظهر فجأة في هذه المناسبة وتصرف كسيد ومقدام للمجموعة حام لها. لكن تيتوس بوخاردت الأكثر تأملاً كان يمسك عن الكلام إلى أن يلتمس منه. حينئذ فإنه كان يضم جميع الحجج إلى بعضها البعض بكيفية رائعة فيعرض النقط موضع النزاع تحت ضوء جديد فيجعل الأشياء تأخذ أماكنها. وجب ذكر أمر يشرف الجميع، كان المخططون والمستشارون قد نجحوا بعد سنين في وجود أرضية مشتركة لإحداث مشروع أصبح مرجعا في حد ذاته، لكن وبعد إنهاء التفاصيل المتعلقة بالرسومات، اكتشفت الحكومة السعودية بأن المكان الذي كان المشروع قد خطط له من أجله لا يمكن الحصول عليه، لم يكن متيسراً... إنه لمن السخرية اللاذعة أن يكون مثل هذا المجهود قد ضاع بسبب مثل هذه المبررات. الدلالة الروحية للفن الإسلامي رؤيا تيتوس إبرهيم بوركهارت للأستاذ الدكتورالسيد حسين نصر العلامة النبيل إبراهيم بوركهارت الذي يحتفل اليوم بذكراه وتراثه الفكري والفني في المغرب –هذا البلد الذي شغف به شغفاً جمّا— قد ترك بصمات مميزة على دراسة المعني الروحي للفن الإسلامي، حتى ليصعب على المرء أن يتطّرق إلى هذا الموضوع من غير أن يتأثر بحضوره الطاغي. كان بوركهارت متصوفا وباطنيا أمضى سحابة حياته الراشدة على طريق الروح الذي يؤدي إلى اللقاء بالواحد الأحد. وكان شارحاً رائعا للحكمة "الخالدة" المعنية بالمؤبد، ضليعاً بالفن المقدس للتعاليم الروحية العظمية في الشرق والمغرب. وكان من وجهة النظر الروحانية ناقداً عميقاً للفن الحديث، كما كان هو نفسه فناناً ذا ذكاء بصري نادر. كل هذه السمات كانت مشفوعة بخلق نبيل وجملة من الفضائل، كالتواضع والإحسان والصدق؛ مما أبدع إنساناً متكاملاً تلمس في قوله وفعله نداء الواحد الأحد، كما يتأرج منهما عطر البركة المحمدية والقرب من الحبيب الأعلى الذي كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) حبيه (حبيب الله). إن الكتابة عن الإنجاز الفكري الاستثنائي لبوركهارت قد تستغرق عددا من المجلدات. وكذلك الحال لو أردنا الكتابة عن حياته الشخصية وعن خلقه، فنحن كنا من أصفيائه والمقربين إليه؛ وقد طفنا معاً حول الكعبة، وصلينا عند ضريح ابن عربي في دمشق، وكانت لنا معا جلسات ودية. أما هنا فلا بد من أن نقصر همنا على الفن الإسلامي الذي كان واحداً من مجالات إهتماماته الرئيسية، فقد كان أكبر من ساهم فيه من بين الكتاب التراثيين، منجزاً للفن الإسلامي بذلك ما أنجزه أ.ك. كومار اسوامي للفن الهندي والبوذي. في البدء، علينا أن نتذكر أن البوركهارت أطول باع في قبول الفن الإسلامي صنفا مميزا قائما بذاته. صحيح أن متحف الفن الإسلامي في القاهرة كان قد أنشيء قبل الحرب العالمية الثانية في ظل النظام الملكي في مصر، وصحيح أيضا أن عدداً من العلماء في الغرب مثل ريتشارد أتينكهاوزن كانوا يستعملون اصطلاح "الفن الإسلامي" في كتاباتهم خلال الأربعينات والخمسينات، غير أنه كان يندر وجود أجنحة منفصلة للفن الإسلامي في متاحف الغرب الكبرى قبيل السبعينات والثمانينات. كانت معظم الكتب الأكاديمية ترفض اعتبار الفن الإسلامي مجالاً مميزا حتى فترة حديثة نسبيا. وما يقال في أجنحة المتاحف يقال كذلك في الكتب والمقالات التي كانت تتناول الفن الفارسي والايراني والعثماني والأندلسي، الخ. إن هذه الاصناف الفنية مهمة بلا شك. أما بالنسبة للفن الفارسي والمصري بشكل خاص، فإن هنالك بعض المنطق في تتبع فنون الحضارات التي تمتد لآلاف السنين كما فعل أ.ي. بوب في دراسته الهائلة بعنوان "تقرير عن الفن الإيراني". لكن سبب عدم قبول معظم مؤرخي الفن الغربي لصنف "الفن الإسلامي" ومقاومتهم له يعود إلى أنهم كانوا يرفضون الاعتراف بابتكار الفن الإسلامي، وينكرون علاقته العميقة بالوحي الإسلامي فيما هم لم يجدوا تناقضاً في الكلام عن الفن الفرنسي في القرون الوسطي وعن جوانب من الفن المسيحي الذي ينتمي إليه فن فرنسا في تلك الحقبة. على كل حال، فإن كتابات بوركهارت ومساهماته الناشطة في "مهرجاني عالم الإسلام" الذين عقدا في لندن في السبعينات، وإشرافه بخاصة على معارض طليعية للفن الإسلامي في "هيورد غاليري" التي افتتحتها ملكة بريطانيا في عام 1976، وكذلك نشاطاته في منظمة اليونسكو وغيرها... كل ذلك كان له قسطه وأثره في اعتبار مادة الفن الإسلامي حقلا مستقلا في الدراسات الغربية. وليس من باب المصادفة أن العديد من المتاحف اليوم، إبتداء من المتروبوليتن في نيويورك، ومروراً بالسميثونيان في واشنطن، ومتحف فيكتوريا وألبرت في لندن، واللوفر في باريس، كلها تملك الآن أجنحة رئيسية للفن الإسلامي لم تكن موجودة قبل عقود قليلة. كذلك فإن عدداً من الجامعات الآن تقدم برامج جامعية عليا في الفن الإسلامي وفي هندسة العمارة. مثل هذه البرامج لم تكن – قبل ظهور كتابات بوركهارت على الملأ – حقلا أكاديميا مميزا إلا نادراً. إن معظم هذا التغيير صار بدهيا حتى لدى المسلمين أنفسهم. لكن يجب ألا ننسي أبداً أنه كان لا بد من بذل جهد كبير لتحقيق هذا التغيير، وأن جهود بوركهارت في تحقيق هذه المهمة كانت حاسمة. لم يكتف بوركهارت بمجرد الكتابة أو الحديث عن الفن الإسلامي وهندسة العمارة الإسلامية وحسب، بل إنه إقام الحجة فبين لماذا يعتبر الفن الإسلامي إسلاميا . لقد شرح المتافيزيقا التراثية للفن، تلك الحكمة التي يتكون العمل الفني بمنظورها من "صورة" ومن "مادة". "الصورة" تصدر عن الوحي الذي يهيمن على الحضارة المعنية، و"المادة" تشكل الطرائق الموروثة، والتقنيات، والوسائط، والاشكال وغير ذلك مما ورثته الحضارة المعنية عمن سبقها ثم فرضت عليه "الصورة" الذي تنزل من السماء. لذلك كان كل صنف من أصناف الفن التراثي، –الذي يكمن في صميمه الفن المقدس– يملك طابعاً روحياً عبقريا ويقدم شيئا من الإستمرار المادي لما سبقه تاريخيا. لقد دلل بوركهارت بوضوح وبشكل لا سابق له أن "الصورة" بالنسبة للفن الإسلامي تنبع من الوحي القراني، بل ذهب أبعد من ذلك ليطالب بضرورة العودة إلى البعد الباطني للقرآن الكريم، أو العودة إلى حقيقته للوصول إلى مصدر هذا الفن ومبادئه. إنه يذكرنا بأن الفن، وإن كان يتعامل مع مواد –وبالتالي مع المستوي الأدنى من الحقيقة– فإنه في منظور المبدأ الهرمسي القائل بأن "الأدنى يرمز إلى الأعلى" يعكس الحقيقة الأكثر جوانية والأكثر جوهرية لذلك الوحي الذي جعل ظهور هذا الفن ممكنا. إن الفن التراثي، ولا سيما الفن المقدس، يعكس الحقيقة السماوية بصورة أصفى من أية صيغة لاهوتية وفلسفية للدين المعني. وهذه الحقيقة تنطبق على الإسلام كما تنطبق على الأديان الأخرى. وقد دل بوركهارت كذلك على أن الفن الإسلامي لا يقتصر على التجذر في الحقيقة القرآنية وحسب، بل إنه كذلك مصاغ ومتأثر ببنية الكتاب المنزل صياغة وتأثرا لطيفين. ولأن بوركهارت كان يعرف حقيقة القرآن من خلال التعمق الفكري والتحقق الروحي معاً، ولأنه كان يعرف ظاهر القرآن وباطنه معرفة حميمية قصوى، فإنه إستطاع أن يشرح لماذا يملك الفن الإسلامي ما يسمى عادة بالطبيعة "المجردة" ولماذا لا يمكنه أن يكون أيقونياً (تصويريا)، ولماذا نجح برغم ذلك أيضاً في أن يكون المدى الذي تتجلى فيه البركة والحضور الإلهي دون أن يحتاج إلى أن يكون أيقونياً. كان بوركهارت يعرف كما لا يعرف إلا القلائل طبيعة الفن الأيقوني الذي كتب عنه صفحات مضيئة تناول فيها الأيقونات المسيحية والهندية والبوذية . كما أنه لم يخطئ مرة واحدة في إعتبار الأيقونة فنا دينيا بشرياً يصور وجوها مقدسة وأشكالا طبيعية كما نرى في الفن الديني الأوروبي بعد القرون الوسطي، ونراه منذ القرن الأخير—بأشكال أقل انحطاطا– في الفن الديني في الهند وجنوب شرق أسيا وأمكنة أخري. لقد شرح بوركهارت الأسباب العميقة لغياب الفن الأيقوني (التصويري) في الإسلام على ضوء هذه المعرفة الواسعة لدلالة الأيقونات في أماكن جغرافية مختلفة. لذلك أصر على تسمية الفن الإسلامي بالفن "غير الأيقوني" بدلاً من تلك التسمية الشائعة بأنه "فن معاد للتصوير". وكذلك فإن وعيه الكامل بخطر أنسنة الفن الأيقوني وتحطيم طابعه المقدس، كما حصل في عصر النهضة في أوروبا، جعل بوركهارت يدرك أهمية ما يقدمه الفن اللاأيقونيي للمسلمين من مناعة كبيرة تحول دون خلق فن طغياني (تيتاني وبروميثي)، ينحط بانسانية الإنسان، كما حصل في الغرب الحديث. إن فهمه العميق لأبعاد التوحيد وللعقلية البدوية الروحية التي تلعب دوراً مهما للغاية في المنظور الإسلامي الروحي –أي فيما يتعلق بإدراك تقلب أحوال العالم وخطر سجن الروح في أشكال ووسائل تعبير محدودة– كل ذلك هياه لأن يكون رائدا في شرح التأثير الروحي والنفسي للفن الإسلامي في نفوس المسلمين، وفي الصورة التي كونها "إلانسان الإسلامي" (Homo Islamicus) عن نفسه من خلال علاقته بهذا الفن على مدى القرون. إن بوركهارت الذي كتب صفحات كثيرة مضيئة عن عقيدة التوحيد ومستويات كثيرة من معانيها التي تكشف عن أشدها باطنية كان قادراً على أن يفسر كيف أن الفن الإسلامي يرفع النقاب عن جوهر التوحيد ويؤدي إليه، كما كان قادرا أيضا على تفسير سر ظهور الوحدة في الكثرة وكمون الكثرة في هذه الوحدة التي هي بداية الحقيقة ونهايتها. ليس هناك ]باحث[ استطاع أن يفهم العلاقة بين الوحدة والكثرة كما تنعكس في الفن الإسلامي ولا أن يكتب عنها بهذه البراعة والعمق –مثلما كتب بوركهارت– اذا لم يكن ]هذا الباحث[ على معرفة حميمة بشيوخ المعرفة الإسلامية إبتداء من ابن عربي ومروراً بعبد الكريم الجيلي والشيخ أحمد العلوي والشيخ أحمد التادلي ومرشد بوركهارت الخاص الشيخ عيسي نور الدين أحمد، وإذا لم يكن قد استوعب تعاليمهم على المستوى الفكري والمستوي الوجودي. كان بوركهارت قد صرح بأن الفن الإسلامي (الصناعة) يتكون من عنصرين متحدين هما الحكمة والفن. وكان بوركهارت نفسه يملك الحكمة اللازمة لفهم الدلالة الروحية للفن الإسلامي على مستوى المتافيزيقا المجردة وعلى المستوى الكوني، وهو أمر حاسم لفهم الفنون التراثية وخاصة هندسة العمارة. إن بوركهارت الذي كان بطبيعته مأخوذاً بالفنون التراثية وبعلم الكون الذي كتب عنه بعضاً من أكثر الصفحات إضاءةً، مما لا يجده المرء إلا عنده ، كان قد نمى معرفة عميقة بعلم الهندسة المقدس ونظام الرموز التراثية وعدد من الفنون التراثية مثل الكيمياء. وقد أفاد من ذلك كله في تفسيره لمعني الفن الإسلامي. إن عمق كتابات بوركهارت في الفن الإسلامي مستمد من حدسه الفني والفكري العميق، ومن معرفته الباطنية العميقة على المستويين الميتافزيقي والكوني. إن هذين العاملين أتاحا له أن يتغلغل في صميم معنى أعمال الفن الإسلامي وهندسة العمارة التي تناولها، وأن يكون أكثر الشارحين أمانة لرسالة تلك الحقيقة المستبنطة في هذه الأعمال الموصولة بمثلها السماوية وصلاً أتاح لها المسايل التي يتدفق منها عطر الحقائق الفردوسية إلى عالم الزمان والمكان والحدود المادية التي نعيشها هنا في هذه الدنيا الدنية. إن مثل هذه المعرفة أعانت بوركهارت على أن يكشف الدلالة الحقيقة لرمزية المكان والأشكال الهندسية، وإيقاعات الزمن، والمنمنمات، والأشكال الخطية، والألوان، وإنعكاسات الضوء، وطبيعة المواد العديدة، وغيرها مما يكون الفن الإسلامي الذي تغني بوركهارت بمجده وبهائه بمثل هذا الذكاء والحب والفرح. هناك مناسبات عديدة تكلم فيها المختصون بالحضارات التراثية، من أمثال كومار اسوامي وشووان خاصة، عن النظام الهرمي المتضمن في فنون هذه الحضارات . وكان على بوركهارت أن يطبق هذا المبدأ العام على الفن الإسلامي، مبرهنا على أن النظام الهرمي في الفن الإسلامي يختلف عن نظيره في الفن المسيحي أو البوذي أو الهندي، ذلك لأن منظور الإسلام مبني على المطلق وحدة وليس على مظاهره الخارجية. وهذا ما يفسر لماذا تجنب الإسلام الفن الأيقوني الذي يعتلي قمة النظام الهرمي للفنون المقدسة في الحضارات التراثية المذكورة. لقد شرح بوركهارت المنزلة الرفيعة لفن الخط والهندسة المعمارية في النظام الهرمي للفن الإسلامي، وكيف أنهما معنيان بكلمة الله عناية الأيقونة بهذه "الكلمة" في المسيحية، ولكن بدون صورتها الإنسانية ولا تشبيهها. ما أكثر من يتكلم اليوم عن الأهمية القصوي لفن الخط والهندسة في الفن والحضارة الإسلامية وما أقل الذين يتذكرون أن أعمال بوركهارت الفريدة هي التي أظهرت هذه الحقيقة بطريقة واضحة في الغرب. لقد أنزل باقي الفنون الإسلامية منازلها في النظام الهرمي الإسلامي، وبين لماذا نجد في مجال الفنون التشكيلية –بعد فن الخط والهندسة المعمارية– أن فن الأزياء وما يسمى بالفنون الثانوية التي يعايشها الإنسان في الأجواء التراثية يومياً هي فنون ذات دلالة عظيمة تؤثر على الروح تأثيرا حميمياً. وعلى غرار ذلك، فقد شرح لماذا نجد الرسم التشكيلي في قمة النظام الهرمي للفن المسيحي، في حين لا نجد له في العالم الإسلامي نفس الأهمية أبدا على الرغم من الجمال الأخاذ والدلالة الروحية للمنمنمات، وخاصة في المدارس الإيرانية. كان بوركهارت علامة في "علم الرموز" بمعناه التراثي . وقد كتب عنه الكثير. كانت التحف الفنية التراثية وهذا الفن العظيم الذي يسمى الكون.. كل ذلك يحادثه بلغته الرمزية التي كان يتقنها. كانت أذنه شديدة الحساسية لسماع رسالتهما، كما كانت عينة تنعم بملكة النفاذ في جواهر الأشياء، تلك التي لم تكن إلا المثل السماوية لكل ما نجربه هنا في عالمنا الدنيوي. في كتاباته العديده عن الفن الإسلامي، كشف بوركهارت عن معنى رموز إسلامية كثيرة، بدءا من المآذن والقباب وانتهاء بالماء والنور. لقد أنعم على الذين لا يستطيعون أن يسمعوا أو أن يروا بالوسائل التي تعينهم على أن يروا بأعينهم ويسمعوا بآذانهم رسالة الفن الإسلامي وهندسته المعمارية مباشرة، وذلك ليتمكنوا من التفكر في دلالتها ويطمئنوا إلى أن الفن الإسلامي –مثله في ذلك مثل أي فن تراثي– يتضمن رسالة ومعنى مستمدين من صميم الوحي الإلهي الذي جعل هذا الفن ممكناً. لقد كان هذا العلامة النبيل الذي نحتفل بذكراه اليوم فناناً أيضا. وكان يملك "حساً" تراثيا للمادة الفنية سواء كانت خشبا أو جصا أو ذهبا. إنه "الحس" بالخامة التي يفرض الفنان التراثي عليها الصورة المستمدة أساساً من العالم العلوي. وبما أنه كان ضليعاً بالكيمياء فنا وعلما – ولعله كتب عنه أكثر الأعمال عمقاً في هذا القرن — فإنه كان قادراً على أن يفهم وينقل للآخرين التحول الكيميائي في منجزات الفنون التراثية، ويدلل على أهمية المواد في فهم هذه الفنون. لقد فتح عيون قرائه على أهمية العلم التراثي الذي يسميه المسلمون "علم خواص الأشياء" من أجل فهم تحول الأشياء والمواد الطبيعية التي يتداولها الفن التراثي بشكل عام والفن الإسلامي بشكل خاص. ترى من غير علامة مثل تيتوس بوركهارت –هذا الضليع بالمعني الحقيقي للكيمياء والفن الإسلامي– يستطيع أن يكتب عن "كيمياء الضوء" مثل هذه الكلمات: إن قصر الحمراء يحتل المرتبة الأولى بين روائع فن العمارة الإسلامية المنذورة لسلطان الضوء.... لقد قارنا هذا الفن بالكيمياء التي صار فيها تحويل الرصاص إلى ذهب أمراً معروفاً. إن هذه الكيمياء –على المستوى الروحي– ليست سوى تحويل الوعي الجسدي إلى روح. يقول الكميائيون: "إن الجسد يجب أن يصبح روحاً كي تصبح الروح جسداً." وبالمثل يمكننا أن نقول عن فن العمارة الإسلامية: إنها تحول الحجر إلى ضوء سرعان ما يتحول إلى بلور . شرح بوركهارت مبادئ الفن الإسلامي والهندسة المعمارية باستبصار لا مثيل له وقدم كذلك رؤياه الفريدة في ذلك العالم الباطن لبعض أساليب الفن الإسلامي وميادينه. وكان من الطبيعي أن يولي عناية فائقة للفن والعمارة في المغرب بما فيه الأندلس، وذلك لأنه أمضى كثيراً من سنواته الأولى في المغرب، ولأنه غالباً ما سافر إليه في سنواته الأخيرة، ولأنه كان متعاطفاً روحياً مع التصوف المغربي. إن كتاباتة عن المغرب، "فاس مدينة الإسلام"، و"المغرب المشرق الغربي: دليل المسافر" و"عند حرف الزمان" ليست مجرد شروحات لفن البلد الذي أحبه حباً جما، ولكنها أيضا دراسة عن الفكر والدين والبنى الاجتماعية للعالم التراثي الإسلامي في مجالي الفن والعمارة. ليست هناك مدينة إسلامية كتب عنها كتاب يضاهي كتاب "فاس، مدينة الإسلام". إن هذا الكتاب يرفع النقاب عن الحقيقة الصميمية لمدينة إسلامية مرموقة. بهذا الكتاب يحظى المرء برؤيا داخلية للمدينة الإسلامية كمدينة إسلامية . أما بالنسبة لكتابه "الثقافة المغربية في إسبانيا" التي كان المؤلف يرى أن ترجمته الإنكلييزية مهلهلة فإنه يكشف عن معرفته الصميمة بآثار الفنون الإسلامية والعمارة في إسبانيا، هذه الآثار الرائعة التي ما زالت تعبر بلغة الصمت عن رسالة الروحانية الإسلامية برغم انقضاء فترة طويلة على الحضور الإسلامي في هذه المنطقة. إن المدهش في أعمال بوركهارت أنه كان قادراً على أن يكتب بعمق حتى عن أعمال فنية ومعمارية لم يرها شخصياً، كما نرى ذلك في مقاطع عديدة من كتابه "فن الإسلام". إن سبب هذا الإنجاز الرائع هو أن رؤيا بوركهارت انتقلت من المبادئ إلى تجلياتها وليس العكس. إنه لم يبدأ بالظاهري وينتهي بالشيء في ذاته. ولطالما وجد سبيله سلفا إلى حقيقة المثل وحقيقة "الشيء في ذاته".. كان يكفيه أن يرى صوراً وأن يقرأ أوصافاً لأعمال معينة من الفن والعمارة الإسلامية حتى يستطيع أن يطبق هذه المبادئ على الأعمال الخاصة التي بين يديه ويرى بحدس ملحوظ كيف تتجلى مثل النظام الكوني في حالات خاصة. كان يعرف حق المعرفة أن أعمالا فنية خاصة من الفن الإسلامي لم تكن أعمالاً صنعت لهذا الغرض وإنما كانت تمثل تطبيقات لمبادئ شاملة ولمعايير. كان يكفيه أن يلقي نظرة على رسوم وصور لهذه الأعمال حتى ينكشف له معناها الرمزي، وكان وعيه يحيط بالجوانب الإنسانية والاجتماعية والجعرافية التي تؤثر في أعمال الفن الإسلامي بطريقتها الخاصة من غير أن تكشف عن معنى هذه النواميس أو أن تحجبها تماما. أنعم الله على تيتوس إبراهيم بوركهارت ببصيرة ترى الله حيثما وجهت وجهها. لقد أجال بوركهارت هذه البصيرة في كثير من الإتجاهات، وخاصة صوب الباطنية الإسلامية التي غذته فكرياً وروحياً، وصوب الفن والعمارة الإسلامية اللذين أحبهما بشغف كبير. كان مفكراً ميتافيزيقيا، وفيلسوفاً في الفن. وكان فنانا قادراً على أن ينقل لنا رؤياه سواء في كتاباته الفريدة أو في رسومه التخطيطية وصوره. لقد علم الذين يستطيعون قراءة رسالته كيف ينظرون إلى الفن والعمارة الإسلامية على أنهما انعكاسات للحقائق الروحية التي تؤهلنا للوجد بحضور انعكاسات أسماء الله وصفاته في الفن الإسلامي التراثي المقدس؛ في قباب المساجد ومآذنها الجليلة؛ في التعشيق المرهف للأرابسك؛ في التناسق الشفاف للأشكال الهندسية؛ في الواجهات البسيطة غير الملونة؛ في الخزف الملون للمساجد والبيوت؛ وحتى في الخلاء أو الفراغ الذي يذكرنا بالآية القرانية بأن الله هو الغني ونحن الفقراء، وأننا بالفقر الروحي وحده نستطيع أن ندرك الواحد الأحد الذي تحيطنا تجلياته في ظاهرة الطبيعة البكر، وفي الفن المقدس، وقبل كل شيء في الرسالات الإلهية التي تتيح لنا تحرير ذاتنا الباطنية، وكذلك في البعد الباطني لخلق الله. إن بوركهارت في كشفه عن المعنى الروحي للفن الإسلامي قد جعل من الممكن لأولي الأبصار أن يدركوا أن قد "كتب الله الإحسان على كل شيء" وأن المهمة القصوى للفن الإسلامي تكمن في أن يساعدنا على أن نتذوق وأن نكتشف بعمق هذا الإحسان في أعمال الفن التراثي بفضل رعاية الإحسان في باطننا وبمساعدة التراث نفسه الذي جعل وجود الفن الإسلامي التراثي ممكنا. هكذا أوضح لنا حقيقة أن الهدف الأقصي للفن التراثي هو أن يساعدنا على أن نصبح نحن أعمالا فنية؛ أن نعود إلى فطرتنا الكامنة في جوهر وجودنا. هذه الفطرة هي العمل الفني المطلق الذي أبدعه الصانع الأسمى. ولا شك في أنه لن تكون هناك صناعة أو فن يستأهلان هذه التسمية بدون إدراك حقيقته سبحانه وتعالى. تيتوس بوخاردت — إبراهيم عز الدين (1984— 1908) موجز حياته وأعماله للأستاذ: محمد سهيل عمر تعريب: محمد سميع مفتي تيتوس بوخاردت (إبراهيم عز الدين) سويسري ألماني، وُلد في فلورينس في سنةِ 1908، وتُوفي في لوسان في سنة 1984. إنه وقف كل حياته لدّراسةِ المظاهرِ المختلفةِ للحكمةِ والدين وتقديمها. وفي عصرنا هذا الذي اِستطر عليه العلمِ ((Science والتكنولوجيا الحديثة، تيتوس بوخاردت كان واحدا من أولئك العظماء الذين عبَّروا الحقائق الكونية والحكمة الخالدة بتعبير جديد. وكان لمجهوداته أثر بالغ في علم ما وراء الطبيعة وعلم الكون والفنون العريقة. ففي هذا العصر الحديث انتشرت الوجودية، وعلم التحليل النفسي، وعلم الاجتماع. وكان صوتا أعلى للبيان عن الحكمة الخالدة (Philosophia Perennis) يعني الحكمة غير المصنوعة أو منزل من الله، وذلك ما عُبر عنه في الفلسفة الأفلاطونية، والفيدانتا (الحكمة الهندونيسية) والتصوف، والطاوية والتعليمات الحكمية الأصيلة الأخرى. وكان عضوا ساميّا للمدرسة التقليدية أو السنية لمؤلفي القرن العشرين أدبيا وفلسفيّا. تيتوس بوخاردت (إبراهيم عز الدين) كَانَ ابنَ النَّحّاتِ السّويسريِ، كارل بوخاردت، وعضوا لعائلة شريفة في بال (Basle). ولو أنه اتبع في البداية خطواتِ أبيه كالنحّاتِ والمصور، لكنه كَانَ منذ طفولته يجَذب إِلى الفنون الشّرقية جذبا قويا دائما. وهذا ما وجَّهه إِلى دراسةِ المذاهبِ الشّرقيةِ وإِلى زياراتٍ متكرّرةٍ للبلدانِ الإسلاميةِ. وبعد الدِراسَةِ في تأريخ الفنِ الإسلامي واللّغاتِ الشّرقيةِ، لبعض السَنَواتِ إنه تَركَ الجماعات العلمية الغربية، ودخل في الإسلام بشكل ثقافي وعلميٍّ وبشكل وجودي. وإنه لم يكن مستشرقا غربيا بمعناه العام، ولكنه كان شخصا مثقّفا استثنائيا موهوبا بهدية العلم والعقل من ربه. وذَهب إلى العالمِ الإسلاميِّ كشابٍ متعلم لتعلم العلوم الإسلامية على يد الأساتذة البارزين في كلتي العلومِ الظاهريةِ والباطنيةِ. ومن حسن حظه أنهُ اخْتيرَ لكي يُظهرَ حقائق العلم والمعارف الإسلامية بتعبير جديد، بل حقيقة الدين بمعناها العالمي، إِلى العالمِ الحديثِ وفي لغةٍ مفهومةٍ وإِلى الرّجلِ المُعاصرِ. وإن مصنفاته في الحقيقةِ تُقدِّم الإسلامِ السني التقليدي في العالمِ الحديثِ وتصرحه بالتصريح الواضح. القائد العظيم ومنشئ المدرسةِ التّقليدية، الشيخ عبد الواحد يحيى (ريني جينو) (1951—1886) كان من أسلاف الأستاذ تيتوس بوخاردت (إبراهيم عز الدين). وكان جينو (الشيخ عبد الواحد يحيى) يرى أن أصل الانحراف الحديث يرجع إلى الزمن النهائي من القرون الوسطى. ونشأ هذا الانحراف من النهضة، (Renaissance). النهضة التي قلب فيها الانفجار الثوريِ العلماني جميع الأمور: وقَهرَ الإسمانية الواقعية، وحل الفردية ( أو الإنسانية ) محل العبودية الربانية.، ونفى التجريبيةُ السكولاستيةَ (scholasticism) من أرضها. فالجزء المهم من عمل جينو كَانَ نقده على العالم الحديث من وِجهة نظر الميتافيزيقيا. ونقده هذا يتبين من مصَنَّفَـية. الأولى "أزمةِ العالمِ الحديثِ" والثانية "سيطرة الكمِّية". و الجانب الموجب لعمل جينو كَانَ تقديمه المبادئِ الثابتةِ من الميتافيزيقيا العالمية والاستناد الديني (الأرثدوكسية) وشرح الرموز والعلامات الدينية. والممثِّلُ البارز للمدرسة التقليدية كان الشيخ عيسى نور الدين أحمد العلوي (1907—1998). وأن مصنفات الشيخ عيسى كانت قد بَدأَت تظهر خلال في الفترة الأخيرة من حياة جينو. وكان جينو (شيخ عبد الواحد يحيى) يسميه باسم "شريكنا في عملنا". استمر شوون ( شيخ نور الدين أحمد العلوي) في النّقد الثّاقب على الضلالة العالمية الحديثة. ومع هذا أنه أوضح الحقيقة الأصلية للأديان والرسالة الربانية للفلاح الأبدي والأخروي للإنسان إيضاحا جليلا في مصنفاته. فالذي استمر في عمل الشيخ عبد الواحد والشيخ عيسى نور الدين هو الرجل السامي الأستاذ إبراهيم عز الدين. كان الأستاذ إبراهيم عز الدين أصغر بسنة واحدة من الشيخ عيسى، وكانا قد قضيا أيام مدرستهم الأولى سويًّا في بال، حوالي زمن الحرب العالمية الأولىِ. وهذه كَانتْ بِدايةَ صداقةٍ حميمةٍ ذات العلاقةِ الثقافيةِ والعميقة والروحيةِ بينهم التي دامت طول العمر. وإن أهم ما قدم الأستاذ إبراهيم بوخاردت في ميتافيزيقيا (ما رواء الطبيعية) وهو متمّم لعمل الشيخ عيسى بشكل جميل تحت عنوان "تعريفٌ لعلوم التصوف". وإنه قطعةٌ نادرةٌ ثقافيةٌ التي تُحَلِّلُ أفكار التصوف بشكل شامل وبدقّة. وإنه بدأ بإيضاْح تحديدات التصوف الواضحةِ، بمعنى أنه ما هو التصوف وما لَيسَ إياه، ثم فحص أسس التصوف الإسلامية. وسمى الباب النهائي لهذا الكتاب بعنوان "الكيمياء الرّوحي". أي طريق السلوك الموصل للإنسان إِلى درجة "التخلق بأخلاق الله". وميزات هذا الكتاب — من ضمن الكتب التي صنفت في اللغات الغربية— أنه يوضح التصوف من جهاته الثلاثة: تعليماتِه وأعمالِ السالكِ الصوفيِ والروحيةِ الصوفيةِ. ولبيان كل ذلك لاحظ الأستاذ إبراهيم أسلوب أهل التصوف وربما استخدم أساليب أخرى لتسهيل بيانه للفهم. وإن معظمَ مصنفات الأستاذ إبراهيم بوخاردت يدور حول علم الكون (الكوزمولوجياِ) التّقليديِ، والذي كان يراه "خادمةً لميتافيزيقياِ". وأنه قَدّمَ مبادئَ علم الكون في مقالة مُتقنة جامعة باسم " المنظور الكوزمولوجي"، (بالفرنسية في سنة 1948 وأشمل في كتاب بعنوان "مرآةِ العقل". وبعد ذلك كتب بالتفصيل حول علم الكون وفنون العلم الحديث في سنة 1964. ونشر كذلك في سلسلةِ المقالاتِ بكلتي اللغتين الفرنسيةِ والألمانيةِ في 1964، وصنف العديد من المراجعِ المُفصّلةِ أيضا حول علم الكون والعلمِ الحديثِ. وتوجد هذه المقالاتِ، الآن كالفصلَ الثّاني في الكتابِ المذكور أعلاهِ تحت عنوان "مرآة العقل"، و"الكوزمولوجيا التّقليدي والعلم الجديد". فالأستاذ إبراهيم بوخاردت كان له صلة خاصة بالكوزمولوجيا مع كونه مشغوفا بالفنون العريقة، فاحصا عن الهندسة المعماريةِ السنية والفنون والصناعات الأخرى. في ضمن ذلك كان يرى أن الأسس الروحية يجب أن تُوَضَّحَ وتُبَيـَّن، وإنَّ هذه النشاطاتِ ذاتُ مغزَى، وتحمل في ماهيتها جهةً رمزيةً وتمثل العقائد والتعليمات الإسلامية من قديم حتى يومنا هذا. وهي مسند الحياة الروحية للإنسان ووسيلة نيل البركة والسعادة. وهناك يحتاج بعضُ النقاط إلى إمعان النظر في علاقة الأستاذ إبراهيم بالفنون الإسلامية وخدماته. فالفنون الإسلامية لم تكن تُعرف في العالم الثقافي مثل فن ما قبل عشرين أو ثلاثين سنة. فسببه أن المثقفين الغربيين كانوا يدرسون الحضارات الأجنبية مقارنة بحضارتهم الغربية ويقيسونها عليها. وفنون الحضارة الغربية، حتى نهاية القرون الوسطى، كانت مبنية على المسيحية، فلما ضعُف بطشُ المسيحيةِ عنها وتغلبت عليها العلمانية أو الإلحاد، أصبحتِ الفنونُ الأوربيةُ تُعرف بمعرفة مواطنها. وأصبحت الفنونُ يُقال عنها بمصطلحات عدة مثل الفن الإيطالي، والفن الفرنسي في القرن الثامن عشر، والفن ألماني في العهد الرومانطكية، والفن الأمريكي في القرن العشرين... الخ. فالمؤرخون والمصنفون الغربيون لم يدرسوا الحضارة الإسلامية إلا مثل دراستهم لحضاراتهم غير الإسلامية أي حسب مواطنها. ولهذا الغرض أُنشأتْ هيئة مستقلة وكانت هي منفصلة عن تكوين الفنون الجميلة. وهذه الشعبة للدراسة والبحث عن الفنون الجميلة في ألمانية ظهرت في القرن التاسع عشر. وأسست هذه الشعبة على الفلسفة الألمانية في ذلك الزمن، ولم يزل أثر هذه الفلسفة إلى يومنا هذا في هذه الهيئة. فلما درسوا الفنون الإسلامية ومعارفها من وجهة نظر هذه الفلسفة صرفوا النظر عن الأسس الإسلامية بل واستخفوها. وركزوا على تعريفها الإقليمية. فعُرفت الفنون الإسلامية بأسامي أقليمية مثل: "الفن المغولي" و"الفن أسباني" و "الفن الإيراني"... الخ. كما هو متضحٌ في متاحف الأوروبية حتى الآن. ولم يُستخدم مصطلح الفن الإسلامي قط، في مثل هذا المكان. إلا أن عبر بعضهم عنه بقوله "الفن المحمدي" (Mohammedan Art) أحيانا. ولم يكن ذلك إلا نادرا. فالأستاذ إبراهيم نبّههم على أن دراسة الفنون الإسلامية لا بد منها وأن الفنون الإسلامية فنون مستقلة بذاتها. وإن هذا العمل المجيد يخص به نفسه. ودراستنا لهذه الفنون متوقفة على مَنــِّه وإحسانه الجزيل. وبمجهوداته أصبحت الفنون الإسلامية تعرف كفنون إسلامية لأول مرة، وعرضت كمظاهر الحضارة الإسلامية. فاعترض عليه بعض المعترضين بأنه لما لم يركِّز عليها نسبة إلى أقاليمها مثل "الفن الإيراني" و"الفن المراكشي" أو المغربي و"الفن الهندي"... الخ. وصحيح أن في جميع مناطق العالم الإسلامي توجد الفنون الخاصة بتلك المناطق ولكن الفنون الإقليمية هذه كلها مرتّبة بخلفية واسعة كاملة وتصور خاص للكون آلا وهو الفن الإسلامي. وإن الفنون التي نشأت في العالم الإسلامي منذ بداية الإسلام إلى زمن استيلاء الغرب على هذا العالم كانت فنون إسلامية. وكانت قد تسلسل فيها روح الإسلام وتصوره للكون. فالعناصر البارزة لهذه الفنون وسماتها الخاصة كلها هبة الحضارة الإسلامية وعطاؤها. وإن أول كتاب ألفه الأستاذ إبراهيم بوخاردت في دراسة الفنون العريقة سماه باسم "الفنون المقدسة في الشرق والغرب). فالأستاذ إبراهيم فصّل فيها أبوابا مفصلة لكل حضارة. وألقى الضوء على الميتافيزيقيا وعلم الجمال لكل من المذاهب؛ الهندوسية، والبوذية، وطاويسم، والمسيحية، والإسلام. وفي الفصل الأخير علق عليها تعليقا عمليا مفيدا على الوضع المعاصر للفنون الجميلة، بعنوان "انحطاط الفن المسيحي والتجديد". وآخر ما صنَّفه الأستاذ إبراهيم من تصنـيف جامع كان كتابه "فن الإسلام" (Art of Islam). وبإمكاننا أن نقول أن هذا الكتاب ذو شأن كبير وذو أهمية بالغة في موضوعه. ويصعب علينا أن نجد كتابا غيره يُوضِّح لنا مبادئ الفنون الإسلامية والأسس الروحية والقواعد العقلية والعلاقة الروحية في المهارة الخلّاقية وأوضاعَها المختلفة في الحضارة الإسلامية. والأستاذ إبراهيم كان مديرا فنيا لدار النشر أورس جراف (Urs Graf Verlag). ونشاطُ أعماله الرئيسي في تلك السنوات كان طباعةَ المخطوطات. وإن من أعماله المجيدة المهمة أنه قام بطباعة عكسية بحسن تام لمخطوطاتٍ نادرةٍ مذهبةً الخاصة بالقرون الوسطى. فبذلك مَدَحَهُ محبو الكتب والخبراءُ والجمهورُ. وخلال تلك السنوات عزم الأستاذ إبراهيم بوخاردت بالعمل على إصدار سلسة المنشورات الأخرى، وأشرف على تدوين مجلداتها وتجهيزها للطباعة. وسَمّى هذه السلسلة باسم "منازلات الروح". وهدف هذه السلسة كانت دراسة تاريخية وروحية لبعض المظاهر المهمة لحضارات مختلفة؛ مثل الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى المقدسة. واختار للدراسة أماكن مختلفة؛ مثل جبل أثوس، وعهد سلتية في أيرلندا، وسينى، ومدينة العذراء، وقسطنطينية وفأس وغيرها من الأماكن. وصنف الأستاذ إبراهيم بنفسه ضمن هذه السلسلة ثلاثة كتب، وهي: كتاب "سينى مدينة العذراء" وكتاب "شارت وتأسيس الكنيسة" و"فأس مدينة الإسلام". إن كتاب الأستاذ إبراهيم "فأس مدينة الإسلام" مصنَّفٌ ذهبي. فإنه أقام في المغرب منذ 1930 لسنوات عديدة، في زمن شبابه الموفور وكان مازال معظم ممثلو التراث الروحي المغربي على قيد الحياة. ولم تكن مناخها الروحي قد تلوث بالتجديد بعد. فكوّن الأستاذ إبراهيم علاقات عميقة بالعلماء والشيوخ أثناء إقامته هناك. وإن زمن قيامه هناك قصةٌ جميلة لحبٍ ووُدٍّ. واستمرت العلاقات وزاد الحب بأسفاره إلى المغرب مرة تِلْوَ الأخرى وأصبح قويا. فذلك العهد كان عهده التشكيلي لمـّا كانت شخصيته وفطرته تتشكل. وتصورت أفكارُه وسيرتُه صورةً خاصةً. وإن ميزات أسلوب في التصنيف الذي ظهر فيما بعد كان تم بناؤه في ذلك العهد. وكَتَبَ خبراتِه عامةً في ذلك الزمن ثم طبعت فيما بعد. وظهرت هذه الخبراتُ والذِّكْرَياتُ والمصنفات بشكلِ كتابٍ. يَحكي لنا الأستاذ إبراهيم تأريخ قومٍ وتأريخَ دينها ومعاركها وحماستها. ويعرِّفنا على الذين حَمَلُوا لواء الحق والصدق، ويعرفنا على الربانيين أهلِ الله وخاصتِه. ونرى الحضارةَ الإسلاميةَ وأسسها الروحية على كل خطوة نخطوها في هذا التأريخ. فبيان الأستاذ إبراهيم يُعطي هذه القصة نورا ويقينا واعتمادا. ذكْر أولياء الله، وحكاياتهم وخوارقهم، والعلم والعرفان، والفنون العريقة والصناعات ومع كل هذا العلوم العقلية وأمور النظام. فالقواعد التي أشار إليها الأستاذ إبراهيم ضِمْنَ للتعامل مع الناس ومجتمعاتهم يمكن أن نستفيد منها كثيرا. وعلاقة الأستاذ إبراهيم عز الدين بالمغرب وخاصة بمدينة فأس موضوع واسع قد كتب فيها كثيرا. أريد أن أذكر لكم زاوية منها. يذكر "سدي على ميشو" أحد أصدقائه وزملائه ضمن ذِكْرَيَاته في ذلك الزمن فيقول: "لو أردت أن أَحكي لك كل نشاطي عبر السنين الطوال فلا يمكن لي ذلك لأنه ذكر شخص كانت له سرعةٌ هائلةٌ وارتكازٌ محيرٌ للعقول، فلهذا أكتفي ببيان جهتين منه، اللتين يُصرف عليهما وقتا كثيرا لأنه كان يعرِّف أهميتَهما والفائدةَ منهما. وأعني بقولي هذا أولا: التعليم والتذكير بالتصنيف والخطاب، وثانيا: قيامه بالعمل على التخطيط والبحث فيه. والأستاذ إبراهيم كانت له يد طولى في هذين العملين. وأعرِض عليكم الآن صورة مختصرة لمحاضرة للأستاذ، إبراهيم ألقى بها في أبريل سنة 1973 أمام هيئة —كانت تشتمل على أصحاب الفضيلة — باسم "مجلس حفاظ مدينة فأس". وكان موضوع المحاضرة "فأس، المدينة الإنسانية". واستهل الأستاذ إبراهيم هذه المحاضرة بذكر أساس الحضارة الإسلامية وأوضحه بالمهارة التامة في صورة جميلة؛ أن العناصر الأساسية للحضارة الإسلامية هي التي بسببها أصبحت المدن الإسلامية وتخطيطها ذات خواصٍ هامةٍ، وبها انفردت تلك المدن في الفن المعماري والتخطيط المدني." "وطريقة الحياة التي تمثِّلها مدينة فأس وتظهر من جمالها هي طريقة حياة إنسان تام، تمثل الإنسان؛ الإنسان الذي يتكون من الروح والنفس والجسد، له متطلَّباتٌ للجسد والمادة وكذلك متطلبات عاطفية وجمالية للنفس. وفوق هذين الأقليمين له حياة عقلية وروحية فعلى هذه الأسس أوضح الأستاذ إبراهيم خريطةٌ كاملةٌ لمدينة فأس وعبر عنها وعن تفاصيلها. إن لشبكة المياه ومجاريها أهمّية بالغة في هذه المدينة. لأن الماء المصفى لا بد منها للحياة المادية واللذة الجمالية والطهارة الشرعية. إن التذوق المعماري وفن العمارة يدلّان على تعمق النظر إلى الداخل. وتعمق النظر هذا لم يدخل في هذا الفن تلبية لمقتضيات مناخ المدينة، ومقتضيات المجتمع وإنما سببه الخلفية الروحية الإسلامية في تكوينها. وأخيرا ذَكَرَ أنواع الصناعات اليدوية، التي كانت تعطي النفس الاهتزاز والابتهاج مع فائدتها المادية. وفوق ذلك كانت ذريعةً للوصول إلى الجهة الروحية للنفس. ويسمح أبعاد روحية أن تُشرقها. وإن الغرض المهم من الفنون أنها تُعطي النفسَ الراحةَ والسرورَ والابتهاجَ.ولا يحمل كل الفن أبعادا روحية. وإنما الفنون والصناعات المغربية توجد في كلها هذه الجهة الروحية. وسببه —كما يرى الأستاذ إبراهيم— تواجد الأشكال الإقليدسية فيها وقلة التواجد فيها هوى النفس، واتصالها بالمبادئ الكونية العامة العقلية والروحية فيها." (المرجع: "تيتوس بوخاردت في فأس. 1972—1977" بمجلة Studies in Comparative Religion، إصدار الذكرى، مجلد16 الإصدار 1—2، سنة 1974، من صفحة 57 إلى61). ومصنَّفٌ آخر للأستاذ إبراهيم بوخاردت يُشبه كتابه "فأس، مدينة الإسلام" آلا وهو كتابه "الحضارة الإسلامية في الأندلس". وهذا المصنَّفُ مملوءٌ بالحسن والجمال والصدق مثل مصنَّفاته الأخرى. وهو بيان المعارف والفنون الذي يكشف الستارَ عن الحضارة الإسلامية والتمدن والروحية كذلك. لقد تعلم الأستاذ إبراهيم اللغة العربية أثنا قيامه بالمغرب لأول مرة، بل وفي بداية عهده هناك. فَقَرَأَ أمهات كتب التصوف باللغة التي صنفت فيها، أي اللغةَ العربيةَ. وفي زمن متأخر تم عرض هذه الجواهر واللآلي وعقودها لإفادة العامة. وقدم الأستاذ إبراهيم تراجم منتخب كتب الشيخ الأكبر محي الدين إبن عربي والشيخ عبد الكريم الجيلي. (أنظر المراجع للتفاصيل). إن لمجهودات الأستاذ إبراهيم في تعريف الشيخ الأكبر في العالم الغربي أهمية كبرى. لقد تقدم ذكر Introduction. ونذكر الآن ترجمة كتابه "فصوص الحكم" باللغة الفرنسية التي طُبعت بعنوان La Sagesse des Prophtes. ثم طُبعت ترجمته باللغة الإنكليزية بعنوان "حكمة الأنبياء" أي (The Wisdom of the Prophets). وبسب وُلُوْعِ الأستاذ إبراهيم بعلم الكون صنَّفَ كتابا مختصرا على الشيخ الأكبر بعنوان "علم الكون الصوفي عند ابن العربي". وكذلك ترجم نخبة مختارة من الكتاب "الإنسان الكامل" لعبد الكريم الجيلي وكتب على هذه الترجمة تقديما استثنائيا. فبهذه المصنفات أصبحت أسس أفكار ابن العربي وأصحابه تُعرف بلغةٍ عصرية تُبيِّن تلك الحقائق وتوضحها بشأنها الخاص وبأسلوبها المستأهل. وأولُ من قام بالبيان في هذا الأسلوب كان الشيخ عبد الواحد يحيى، ثم سار على نهجه الشيخ عيسى نور الدين ورفعه إلى درجة كماله، ثم استخدمه الأستاذ إبراهيم أحسن استخدامه في بيان كتب ابن العربي وتعليماته باللغات الأوروبية. ولا يُدرك مكانةَ مجهودات الأستاذ إبراهيم وأهمية هذه الكتب المترجمة إلا من يقرؤها بإمعان. إنه تعلم علوم ابن العربي العرفانية ودخل قعرها. فبها أمكن له أن يَوضِّحَ تلك العلوم بالمهارة في اللغة المعاصرة. كان يُوضِّح بطريقة خاصة حتى لا تفتقد علاقتها بعلوم التصوف وبركته. وإن التراجم والشروح التي صنفها الأستاذ إبراهيم عز الدين السنية مع كونها مملوءة بنور الحكمة، ولا توجد فيها العيوب مثل عيوب الشروح المدرسية اليابسة الناشفة فاقدة الروح. وجدير بالذكر هنا، ما كتبه السيد حسين نصر في ذكرياته عندما رأى الأستاذ إبراهيم معتكفا في مقبرة الشيخ الأكبر. "المستغرق في حضرة الحق، الحق هو الذي مأخذ الأديان كلِّها وينبوعها وكذلك هو ينبوع التصوف. عجزه وتذلُّلُـه كان جدير بأن يُلاحظ. فإن حضرة الحق يتبين أكثر وأوضح في مقام أولياء الله، وذلك للنـزول عليها البركة الإلهية. وهذا سر إلهي بأن الأماكن مثلها تكون مهبطا للبركات ومكان نزولها، أكثر من غيرها من الأماكن. فكيفية الأستاذ إبراهيم وحالته هذه تدل على البعد العظيم بين الحكمة النظرية أو علم التصوف الكتابي وبين تحققه. فكثيرٌ من المصنفين يكتبون عن الشيخ الأكبر ويدَّعُون أنهم أولوا مكانة خاصة في التصوف ولكنهم لا يجدون حقيقته مطلقا ولا يستفيدون منه شيئا. ورغم أولئك كلِّهِم كان الأستاذ إبراهيم يعيش في نفس الحقيقة التي كان يكتب عنها. والنور والبصيرة والضياء التي كانت تتَّضح من مصنفاته في التصوف كان يدرسها الأستاذ إبراهيم فلا يفهم مغزى متونها فحسب بل ويصل إلى عمقها وعمق محتواها. وهذا لا يمكن إلا لمن لا يرى الحق نظرا بل يراه بوجدانه وشعوره، وأعماق قلبه، ثم يصبح في نفسه شاهدَ الحق، ويرتقي على درجة شهادة الحق. فالحالة التي رأيت عليها الأستاذ إبراهيم هي كانت حالةَ ولي الله ورجلٍ ذي الروحية، الذي وُهب الفراسةَ الاستثنائيةَ، وحياته متحلية ومتزينة بالتقوى، ونفسه مزكى بنور الحق وبركة الحضرةِ الإلهية. الحق الذي كان موضوع دراسته العلمية ومصنفاته." وكذلك تَرْجَمَ الأستاذُ إبراهيمُ مكاتيبَ الشيخِ مولائي العربي الدرقاوي. فهذه الترجمة باسم "الرقعات الدرقاوية" تُعتبر وثيقةٌ هامةٌ روحيةٌ ونجد فيها معلوماتٍ ذاتِ شأنٍ كبيرٍ على جهات التصوف العملية المختلفة. الأستاذ سدي إبراهيم عز الدين فارق الدنيا الفانية ووصل العالم الأبدي. وليس هو معنا اليوم ولكن بحوثه العلمية الذهبية مازالت معنا تُنير الطريق للباحثين عن الحق؛ الذين يرغبون في معرفة التصوف والحضارة الإسلامية، والذين يريدون أن يعرفوا عقائد الشيخ الأكبر وتعليماته. فالواقع أنه نستطيع أن نقول إن الآثار العلمية للأستاذ إبراهيم هي التعبير الجيد لنُبذة عقائد الإسلام التقليدي وتعليماته في العالم الحديث. رحمه الله سبحانه وتعالى رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته ورضي عنه. أخبار إقباليات أخبار إقباليات حفلة عيد ميلاد إقبال في النرويج احتفال ذكريات إقبال في تورنتو مجلس ذكرى إقبال في ديره غازي خان حفلات سنة إقبال في ولاية بلوتشستان ذكرى إقبال في مدرسة باك الثانوية الحكومية للبنات بمدينة كوئته أسبوع إقبال في الكلية الحكومية للبنات في سيتلائيت تاؤن بمدينة كوئته أسبوع إقبال في الكلية الحكومية للبنات في جناح تاؤن بمدينة كوئته حفلة إقبال في الكلية الحكومية للبنات في جناح تاؤن احتفال مجلس إقبال المركزي يوم إقبال في جامعة الكلية الحكومية بلاهور أسبوع إقبال في مؤسسة فكرة باكستان و وقف أركان حركة باكستان يوم إقبال في مجمع الأطفال بلاهور حفلة عيد ميلاد إقبال في النرويج أيام الشتاء في النرويج قصيرة جدا عامة، فلذا لا يجد المصلي فراغا بين الصلوات إلا لفترة بسيطة. وعندما يستهل رمضان في أيام الشتاء، يزداد المسلم انشغالا في أعمال العبادة أكثر، وينقص الفراغ عنده نقصا. ويسرنا الأعمال الدعوية والتربوية من قبل الهيئات الدينية إذ كثر فيها عدد النرويجيين الداخلين في دين الاسلام. يهتم كل صغير وكبير ونساء وبنات بإقامة الصلوات والصوم والإفطار والتراويح بتمام الرغبة والشوق. ومن أجل ذلك لا يجد المسلم في النرويج أي فرصة للأنشطة السياسية والاجتماعية. وعلى الرغم من ذلك، قام مجلس الأحباب الباكستاني في 10 نوفمبر 2002م الموافق يوم الأحد بين العصر والمغرب بحفلة كبيرة بشأن عيد ميلاد شاعر المشرق علامة محمد إقبال، وذلك على مضي 125 سنة من ولادته. وهذه الحفلة أصبحت حفلة إفطار، فأفطر جميع المشتركين فيه قبل نهاية الحفلة، وصلوا المغرب. لقد بدأت الحفلة بتلاوة آيات من القرآن الكريم تلاها منتظم الحفلة نفسه السيد طلعت محمود بت. وبعد التلاوة قدم بعضا من أشعار مدح الرسول –صلى الله عليه وسلم-. وقال محمد صفدر صوفي أحد حاضري الحفلة: إن العلامة إقبال كان مجددا لعصره مع كونه مصلحا للقوم. وجاء بحكم القرآن ومواعظه في شعره بأسلوب بسيط يفهمه العامي. وكذلك بين الأصول والمبادئ الخاصة بتقدم الأمم والشعوب، فلذا من اللازم أن يدرس شعره ونثره بدقة وإمعان. تلا فيض الحسن شاه آية من القرآن وأوضح مفهومها، وقال: "إن المؤمن لا يخاف من الموت". ثم سأل: "ما شخصية المؤمن عند العلامة إقبال؟" ثم في نهاية الكلام قرأ هذا البيت من شعر إقبال: "من كان قلبه يتمنى الموت في سبيل الصدق ينبغي له أن يحيي جسده الترابي وينشئ فيه الروح" وكذلك قدم مقال بعنوان "فكرة إقبال وتصور الأمة المسلمة" ومن لب هذا المقال "أن العلامة إقبال كان صاحب الدعوة إلى الإتحاد بين المسلمين على مستوى العالم الاسلامي. وكان يعتقد تماما أن المستقبل للإسلام. وأن حل جميع مشاكل البشرية في التعاليم الاسلامية. وحل جميع المسائل لبني آدم مضمر في التعاليم الاسلامية، والامة المسلمة تتحمل على عاتكها مسؤولية تقديم الاسلام بروحه الحقيقي والاصلي امام العالم كله- فلذلك احب اقبال أن يقبل مسلمي الهند مسؤولة اتحاد مسلمي العالم فلهذا الغرض كان ينبغي ان تكون لهم حكومة مستقلة مختارة وجمهورية تقوم على أساس الشعب الحر المعترف بهذه الحكومة من قبل الدول كلها. وكان هذا هو الغرض المنشود الذي من اللازم ان يوفر له معمل التجارب كشكل باكستان- يقول اقبال رحمه الله: أدرس الصداقة والعدالة والشجاعة درسا وسوف تحمل مسؤولية العالم الأجمع وغنى راجا منصور احمد والسيد بلال امتياز شاه والسيد امتياز حسين شاه بأصواتهم الجميلة شعر اقبال. وانتهت هذه الحفلة المباركة بالدعاء. (اعداد: محمد انور صوفي، اوسلو، نرويج) احتفال ذكريات إقبال في تورنتو وأمسية يوم الجمعة الموافق بست عشرين ابريل يستحق ان يقال احتفال يوم إقبال ولا يوجد له مثيل في احتفالات تورنتو. لقد أبدى المشتركون ولوعهم بذكر اقبال وشعره من بداية الاحتفال إلى نهايته بكل اخلاص ومحبة. وكان الخطاب الساحر للخطيب الضيف بروفيسور نعمان الحق مظهر علاقته الفكرية والعاطفية برسالة إقبال. وألقى خطبة الرئاسة المولعة مولانا وصي مظهر الندوي. وكان منتظم الاحتفال الدكتور تقي عابدي، وقدم في هذا الاحتفال معرضا صوريا عن حياة إقبال وعرضت فيه الرسوم واللوحات لاسلم كمال، مصور إقبال شعره وفكره. وفي نهاية الاحتفال كان العشاء رائعا وبعده غني شعر إقبال بأسلوب الـ"قوالي". والذي رفع شأن هذا الاحتفال أكثر من جميع احتفالات المنعقدة عن إقبال. فحسب النظام المعلن بدأت الحفلة بالسير في الصور عن حياة إقبال (رح) ومن ثم بعرض لوحات اسلم كمال والتي شكلت فيها أبيات من شعر إقبال. كان من المتوقعة أن تبدأ الحفلة السابعة والنصف. ولكن بدأ قدوم المشتركن من الساعة السابعة، وشاهد المشتركون جميع هذه الصور بكل شوق ورغبة، الى ان أذن للمغرب في الساعة الثامنة والنصف. وتمتع الحاضرون بالمعرفة على عدة نواحي حياة إقبال عن طريق اللوحات والرسوم، ونالوا المعرفة على نواحي خفيه من حياة إقبال ما لم يكن من الممكن ان يصل إليه انسان من كلامه أو من كلامٍ مكتوب عنه. فأصبح المشاهدون يتبادلون الأراء عن هذه الصور أثناء المشاهدة وهم يتمتعون بالمأكولات الخفيفة الإستقبالية. صلي المغرب في نفس القاعة وبعد صلاة المغرب تم فتح أبواب القاعة الكبيرة الملحقة بهذه القاعة. وبدأ البرنامج الثاني للحفلة. وكان هذا الجزء من البرنامج يشمل محاضرات والعشاء والتغني بشعر إقبال. بعد أن تمكن المشتركون من الجلوس قام السيد أبرار خان عضو أكادمية إقبال بكينيدا. وعبر عن شعوره وقدم الشكر بجميع الحاضرين باسمه وباسم الأكادمية. ثم قدم تعريفا مختصرا لرئيس الأكادمية السيد تقي عابدي. ثم دعاه ليرأس البرنامج. الطيبب تقي عابدي يتعلق بشعبة الطب ولكنه صنف تسعة كتب في الأدب الجديد والأدب الكلاسيكي. وله مكانة عالية في الأدب بكونه باحثا في أمريكا الشمالية. ويظهر شغفه بأفكار إقبال من كتابه الأخير "دراسات إقبال العرفانية" وإنه إضافة مهمة في الأدب الإقبالي. بعد أن ترأس الطبيب عابدي، دعي حافظ إشتياق طالب لتلاوة القرآن الكريم حتى يبتدأ الاحتفال باسمه تعالى. تلا حافظ إشتياق طالب نخبة من آيات القرآن الكريم. وبعدها بين ترجمتها الإنكليزية. وعبر طبيب عابدي شغفه بفكر إقبال وأوضح فلسفة العشق وبين أن أساس إنتمائة بعلامة إقبال عشق محمد - صلى الله عليه وسلم- واستدل من شعره الأدرية والفارسية. وقال: أن كلمة العشق كلمة عربية ويوجد استخدامه عاما في القصائد العربية قبل نزول القرآن الكريم ولكن ترك استخدامه فيما بعد لعدم كونه موجودا في القرآن الكريم. وتشرف اول من تشرف لاستخدام هذه الكلمة مولانا روم، ومنه أخذ تلميذه الهندي علامة محمد إقبال. واستخدم هذه الكلمة بقوتها المخفية وبجمالها بأسلوبه الجميل في كثير من شعره الأردي والفارسي، واعطى هذه الكلمة مكانة سرمدية في الأدب الأردي والفارسي. ثم عرض نخبة من الأشعار الفارسية مع الأشعار الأردية المتعلقة بموضوع العشق ثم ترجمها الى الإنكليزية ثم فسرها حتى تمتع الحاضرون بمعرفة مكانة شعر إقبال العالية، وقال: أنفاس جبريل في عشقنا كذا والنبي وقراءنا ذلك العشق به حسن الزهور هو روح وبكأس قد تدور وقال أيضا ما معناه: أرسخ أساس العشق في روحك وجدد العهد الموثوق بالنبي الكريم لأنه: من كان زاده عشق محمد لا يحرم من هذا الزاد وإن كان في البحر أو البر. وقال ما معناه: رق بقوة العشق كل سافل إلى الأعلى ونور الدهر بنور عشق محمد إن لم يكن في الإنسان عشق محمد لا يبقى له شيء لأنه: بيت: إن لب القرآن وروح الإيمان وأصل الدين من حب محمد رحمة للعالمين قال الطبيب عابدي: إن العشق في رأي إقبال ليس محبة مليئة بالإحترام والتعلق ولكنه القوة التي: العشق يسخر الخيبر وإن تغذ بخبز البر والعشق يشق القمر ويجعله نصفين وكان العشق نفسه قوة في جسد من أكل خبز البر فبهذه القوة دمر باب خيبر وبنفس القوة انشق القمر. وجاء الطبيب عابدي هدية للحاضرين نخبة من شعر إقبال توضح النصر الأساسي في فكر إقبال أي فكرة أسرار الذات ورموزه بأسلوب بليغ وعبر عن نتيجة تلك الفكرة كبناء ذات الصحوة وأهدى أبياتا من شعر إقبال الى الحاضرين وخاصة هذا الشعر: المشرك المستيقظ القلب أمام صنمه خير من مؤمن نائم في حرم كعبته أي: إن الكافر الواعي بقلبه أمام صنمه خير من مسلم نائم داخل الكعبة نوم الغفلة. وكذلك ذكر أبيات من شعر إقبال كتبها إقبال في منظومة له باسم "مؤتمر فلسطين" والذي أنعقد في خلفية الحرمان من الوسائل المادية واليأس من نتائج الأعمال من قبل القواة المغربية، وبين فيها العلامة الفرق بين وسائل المسلمين ووسائل الغرب وبين عاطفيتهم وعاطفيتهم، وسحر الحاضرين وترجم أبيات إقبال من الفارسية، وقال فيها: "عندما احرق طارق ابن زياد سفنه عند جبل الطارق، قال الناس له: "ان هذا العمل خلاف للعقل ونحن بعيدون عن أوطاننا فكيف نرجع إليها. ولا يجوز للمسلم هجر الأسباب في الشريعة الإسلامية، فرد عليهم طارق ابن زياد سالاً سيفه ومبتسما إن جميع البلدان بلادنا لأنها من ملكية ربنا عز وجل." وكان المحاضر الضيف الدكتور نعمان الحق أستاذاً في كلية تاريخ العلوم والآداب بجامعة بنسلوينيا، ومع ذلك هو مدير عام لسلسلة الكتب المبنية على "دراسات الفلسفة الإسلامية" المطبوعة بمطابع جامعة أوكسفورد، وكذلك هو عضو في عدة هيئات عالمية إدارية ومستشارية. وقد قام بمسؤولية التدريس أستاذا في عدة جامعات قبل مسئوليته هذه في جامعة بنسلوينيا. ونال الدكتور الزمالة (فيلو شب) في دراسات الشرق الأوسط بجامعة هاروورد، وكذلك درس التاريخ الفلسفي للإسلام في جامعة لندن وجامعة هاروورد. و مع جميع مسئولياته التدريسية والإدارية والمستشارية هو مصنف لعدة كتب. ومن هذه الكتب كتابه Name Natures And Things في مجلدين في تاريخ العلوم والفلسفة، وطبع هذا الكتاب من هوليندا وله كتاب باسم "موسوعة الإسلام" وكذلك "موسوعة العالم الإسلامي المعاصر". وكذلك تطبع كثير من مقالات الدكتور في مجلات ذات شأن كمجلة مجتمع الأمريكي الشرقي (The American Oriental Society) وله كثير من مقالات في أفكار إقبال جنبا الى خطابات في المؤتمرات العالمية. وفي هذه الأيام هو يكتب كتابا جديدا بموضوع الحلاج الصوفي وعلامة إقبال. وله خدمات في إذاعة لندن والتلفزيون الباكستاني لعدة سنوات. ولدكتور نعمان شخصية جاذبة ذات شباب على العكس من الأساتذة في خلفية عالم العلمي والفكري والفني. وبدأ خطابه شاكرا لمندوبي أكادمية إقبال كينيدا و كذلك للحاضرين من تورنتو واعترف بأنه يتجنب عامة من مجالس ثقافية مثل هذا المجلس بسبب انشغاله في عالمه العلمي والتدريسي ولكن الغرض المنشود من هذا الاحتفال أي معرفة إقبال جذبه الى هذا المجلس. وعبر عن شغفه بشعر إقبال وقال: إن قلت إن شعره يجري في جسدي مجرى الدم فليس من غير الحقيقة. تعرفت على إقبال وأنا في المدرسة الثانوية والأن حصلت على منصب الأستاذ في "آي وي ليك" ولم تأت لحظة من حياتي وجدت فيه نفسي مستغنيا عن التكلم مع إقبال والتسلي به والهداية منه. وقال: على أساس خبرته الشخصية عن إقبال أني أضع أمامي دوما معشر الشباب. وأقول لجميع الأباء المقيمين في هذا البلد خاصة وفي المغرب عامة أنه يلزمهم أن يعرّفوا الجيل الشاب رسالة إقبال ويربوهم تربية شاهين إقبال. الشاهين الذي يفخر أحد أن يطير معه ويمشي معه. وهذا قد يكون سبب نجاحهم. وقال أيضا: إن كثير من جيلنا المعاصر حبسوا رسالة إقبال الجادة المحركة الفعالة في زنزانة ضيقة مظلمة وأريد أن أشعركم بأن إقبال قائد ومعلم فكري وعملي الذي يمكن في ضوء رسالته أن يقوم الشعب بأداء رسالة الإسلام على أسسه الآفاقية. رسالة الإسلام التي جاء به النبي والقرآن ومفسر القرآن مثل إقبال. وقال أيضا: إنه من العادة أن يقال لإقبال "شاعر المشرق" قاصدا بيان أهميته وضرورته وتعبيرا بالتعلق معه. فلا أوافق هذا القول وأرى أنه ليس من العدل مع إقبال وأنه تهمة شنيعة عليه وموضع اليوم هو أن أقدم إقبال في خلفية العصر المعاصر على مستويات ثلاث: مكانته الفكرية والأدبية والعلمية في الخلفية العالمية. أريد أن ألفت نظر الشباب إلى أمر الهام أنه كتب الأديب الألماني هرمن هيسي ذو إحترام والشهرة العالمية عن إقبال أنه كان يسكن في العالم الثلاثة. في العالم الغربي والعالم الإسلامي والعالم الجنوبي الآسيوي. ولكننا لا نحتاج للتوثيق في جهات شعر إقبال الآفاقية إلى هرمن هيسي أو إلى أي شخصا آخر. إن قرأتم دليل كليات إقبال الفارسية والأردية لوجدتم انه يذكر عن العالم الغربي أسماء هيجل وماركس ونطشيه وشكسبير وكذلك يذكر سلسلة أسماء المسلمين الطويلة أيضًا مثل الشيخ الرومي والعطار والحلاج. ثم ذكر شعر بهرتري هري الذي قال: يقطع الألماس بأوراق لزهر لين القول لفدم في ضياع وأسماء ’سوامي رام تيرتهـ‘ و’كورو نانك‘ يدلان أننا نتعامل مع خبير لفكره علاقة مع الحضارة العالمية. بعد أن أثبت الأستاذ نعمان الحق أن فكر إقبال لا ينتمي إلى قطعة أرض ما أشار إلى كون فكره ما فوق الحدود الزمنية قال: إن لساعة نظر إقبال ومعرفته للمستقبل كن إلى هذه الدرجة أنه عندما يقرأ الإنسان كلامه يحس إنسانا كأنه يشاهد سي اين اين أو يسمع وكان إقبال لا يدعي أنه يرى المستقبل ولكنه كان فراسته وبعد نظره وعنق ادراكه وعضوته وشدة إحساسه. وإنه كتب بعض أبيات في هذا الشأن باسم أفكار محراب زهر الأفغان ألى أين أمضي فقل يا جبل! ومن سفرك الصلد جدي أطل ووكر الشواهين منذ الأزل وما فيك زهر وطير الغزل أراك فيك يا جبلي جنتي ترابك مسك به نشوتي أيا سقر قل لي فأنت الغيوب عصى الإنجليز أثوب قصير وكذلك وصية خوش حال خان التي قال فيها : قبائل في الدين في وحدة وشهرتهم في تلك في نجدتهم وإني عجبت في أبطالهم مضوا للنجوم بأعمالهم كمثل المغول لهم طفلهم وقد أنجبت ذاك بلدانهم ومنى إليك كلام وجيز لخوشحال قبر ولكن عزيز تراب الجبال فعنه بعيد ولكن عجاج لتلك الجنود وقال الأستاذ: إني أغني هذه المنظومة في وحدتي وأتعبر وأصل إلى عالم أنسى فيه نفسي يستحيل أن أعبره في عبارة وكلمات. يقول إقبال بموضوع "رسالة إبليس إلى أبنائه السياسيين" لكم برهميا أفسدوا ومن غاره شيخها شردوا تقاليد أهل التقى بددوا غزالا بمرعى ألا فاطردوا ولي نفس مشعل للورود بشعر تغنى ولكن بعيد وكان الأستاذ نعمان الحق يغني شعر بعد شعر ومنظومة بعد منظومة بشوق وحنين حتى أنه سحر الحاضرين وأصبحنا نظن أن هذا الاحتفال بدلا من أن يكون احتفال فكر إقبال أصبح احتفال شعره إلى أن أردنا ثانية إلى فكر إقبال وقال: إن رأينا كلام إقبال في ضوء واقعنا المعاصر لوجدنا أن كثير منه يتعلق بكلام اليوم وبالوقت الحاضر. وذكر راجعا الى فكر إقبال أن "كانت" الفلسفي المعروف يقول أننا ندرك دنيانا المحيطة بنا بحواسيسنا وتكون هذا كله إختراعنا. فمثلا عندما نمعن النظر في شيء فيكون موجودا ولكن نسمي هيئته فنعينه حسب رغبتنا كما نسمي اللوحة المنصوبة على أربعة أرجل بكلمة منضدة وهكذا قد كنا اعطينا جسدا لتخيلنا. وهكذا نجسد تخيلنا ونخلق هذه الدنيا المادية. ولاعلاقة لهذه الدنيا المادية ذات زمان ومكان بالقيم الأخلاقية والروحية. وعلى العكس ذلك فك إقبال تلك العقدة الفلسفية وهو أحسن وجامع. هو يرى ويستدل بأن الزمان والمكان والعالم الأخلاقي ليس بينهما أي تناقض فحسبه بل هما مهمين لبعضهما وفي هذه العلاقة الجدلية سر هدف تخليق الإنسان وجوهر تطوره. وإن وجود الإنسان في هذه الدنيا يتعلق بالوجه التاريخي للزمان والمكان وإن صراع الخير والشر في أصله مصارعة بتصرف الزمان والمكان. وكذلك أخبرنا بأن تصور إبليس في الفلسفة الإسلامية ليس تصور عدوانه لله عز وجل أو خصينه وإنما هو عدوانه للإنسان. وعلى أساس هذه الفلسفة ينبغي أن يقال أن العالم الزماني والمكاني يحارب عالم الخير والشر وبل في الأصل هما يصلحان مهملين من غيرهما. وأكذا الأستاذ قوله بشعر إقبال وأوضح أن الآدم هو نفسه يخلق فردوسه. ولا محالة من أن يحاكك بقيود الزمان والمكان ومصاعبهما. وقال إن إقبال أبرز أهرامات مصر أكبر مظهر لصلاحيات الإنسان وإمكانياته التخليقية بهذه الكلمات: فضاء وسمة عظيم الجلال وذي فطرة نورها في الرمال ومن هرم فلك في خجل فلي صورة الخلد ها لم تزل ومن فطرة ذاك فن بعيد فمن ذا يصاد ومن ذا يصيد وكذلك الحوار المعروف بين الإنسان والرب في "رسالة المشرق" خـلقتَ الظلام فصغتُ السـراج وطينا خلقتَ فصنعتُ الكؤســا خلقتَ جبالا وبيــدا ومرجــا خلقتُ حدائقهــا والغروســا ولقد سحر شوق الأستاذ نعمان الحق وإشتياقه وجذبه في كلام الإقبال وإتيانه بالأمثلة من شعر إقبال ورفعة رسالة إقبال جميع الحاضرين وكذلك سحر الجو وكان المرحلة الثانية النظام الأدبي لشعر إقبال. ألفت الأستاذ نظر الحاضرين إلى وجه طريف لشعر إقبال أن شعر إقبال مليئ بالتمثيل حتى أن خبيرة إقبال الألماني أين ميري شمر قالت: في جلسة ما أنه هناك مخرج فرنسي يريد أن يستخرج شعر إقبال في – مغربي اوبيرا – وهذا الوجه في شعر إقبال ليس إلا طبعا للوصف القرآني في البيان التمثيلي وكذلك عبر مشيرا لآيات القرآنية أن قصة تخليق آدم وإبليس كانت مثل الحوار التمثيل، وهكذا جاء شاعرنا علامة إقبال بالحوارات التمثيلية حسب العناوين مثل تخليق الإنسان وهدف التخليق والسفر من الجنة إلى الأرض والنشيد الملكي في وداع آدم وإستقبال الروح الأرضي، كل هذه العناوين كتب فيها بأسلوب الحواري والدرامتيكي وأخذ الفكر والفن المنزغين إلى أوج الكمال لايمكن لنا ان نأتي له مثال من الأدب الأردي ولا الفارسي ولا حتى من الأدب العالمي وكما قال الأستاذ: إن إقبال يجمع في نفسه جميع الشخصيات الهامة الذين لهم علاقة بالعالم العلمي والأدبي. فليس في شعره حوار الحلاج وإبليس ورومي وجوتيه بل يوجد فيه مجاذلة الرومي وغالب. فكتب ردا على ديوان جوتيه الشاعر الألماني في كتابه رسالة المشرق. فكأنه غير مقيد في الحدود الزمانية والمكانية ويأخذ إقبال تخليه إلى ذروة السنام المحاسن الفنية المطلقة من جميع القيود والحدود. ويقتضي هذا أن لا ينظر إلى إقبال في الخلفية الإقليمية أو التمذهبية أو اللسانية أو السلالية ولكن ينبغي أن يشهر ويروج فكر إقبال إلى جميع أنحاء العالم بأقصى ما يمكن لنا. إن رسالة إقبال للإنسانية كلها ومكانة إقبال بين علماء العالم الكبار والمفكرين. وإن من حق رسالة إقبال الآفاقية أن لا نقيد هذه الثروة في قيود أو في سجن المجالس الأدبية ونتركه يصدأ. بل نسير به في الأجواء شرقا وغربا وينبغي لذلك أن جيلنا هذا الذي يتربى في المغرب يتربى في فكره وشعره وأساليبه حتى يتعرف على عظمة إقبال. وعندما انتهى الأستاذ خطابه قام جميع الحاضرين تكريماً له وكأنه كان تأثرهم من خطابه الماهر ومعرفته بالمحاسن الفنية لشعر إقبال وشغفه بكفر إقبال وإتيانه بأمثلة من الشعر المناسب بالمواقع المناسبة مما أبدى لهم مهارته وخبرته في شعر إقبال و فكره. وبعد خطاب الأستاذ نعمان الحق، قام منتظم الاحتفال الدكتور تقي عابدي ودعا السيد سجاد حيدر رئيس اكادمية إقبال بكينيدا على المسرح لكي يعطي الجائزة لسليم خان وإرشاد أحمد على إنعقاد المعرض الصوري والتعاون التنظيمي. وتشرف سليم أحمد خان وإرشاد أحمد بنيل الجائزة من بين تصويق الحاضرين. وبعد هذا دعي مولانا سيد وصي مظهر الندوي وزير مجلس الشعب الباكستاني السابق رئيس الاحتفال ليلقي قولاً رئيسياً. وقال مولانا الندوي في إستهلال خطبته مشيرا الى خطاب الأستاذ نعمان الحق أنه كما أبدى عظمة إقبال الأدبية والفكرية لايمكن أن يقال شيئا بعد هذا ولكنني أريد أن أشير ألى شيء بسيط يصعب أن يحصل له واحدا مجلسا أحسن من هذا المجس وهو أن المفتونين بشعر إقبال وفكره لا يرون إقبالا شاعرا فحسب بل يرونه قائدا عمليا ودليلا على هذا أريد أن أستدل ببيت من أبيات إقبال الذي أخبر فيه عن حالة الأمة الإسلامية السيئة وبل بين سببها والسبيل من الخلاص منها. وأعاد مولانا الندوي قولهم بأنه يريد أن يلفت نظر الحاضرين إلى أن شهرة إقبال معترف به كفيلسوف وشاعر عظيم ولكنه أدى دور مصلح الملة الإسلامية عمليا بدلا أن يكون حامل رسالة قولية. وكان له نظر عميق في مسلمي العالم كله وخاصة في مسلمي الهند. ونظرية باكستان التي قدمها في خطابه بإله آباد ثم دعا القائد الأعظم محمد علي جناح من الإنجلترا لكي يرجع إلى الهند ويشكل ويصبح قائدا لمسلمي الهند فحثه إقبال على هذه القيادة وصور كل هذا الجهد إختصارا في بيت واحد لم أرى مثله في حياتي قط. ومن العجب أن العلامة كما قدم صورة الوضع في ذالك الزمن في هذا الشعر لا يزال يصدق بالحالة التي نعاني منها اليوم يقول العلامة: القائد فاشل وصفوف الجنود ممزقة آه لسهم طائش ليس له أي هدف لقد أوضح العلامة إقبال في هبذا البيت بأسلوبه الجميل بأن الأمة بأجمعها منتشرة تماما. وصف الجنود مكسرة ممزقة، وأحاطهم الخلاف وأصبح المسلمون كلهم منقسمين في عدة جماعات. وكل الحل الوحيد للخروج من هذا المأزق أن يجد المسلمون القائدين المخلصين ذوي كفاءات لازمة. ولكن للأسف قواد هذه الأمة أصحبوا يأخذون شعبهم وأمتهم إلى وديان ضيقة صعبة ويجرون بهم إلى غير هدف، فيشر علامة إقبال بقوله "سهم ليس له هدف" في المصراع الثاني من هذا البيت إلى أن الملة الإسلامية رغم كونها صاحبة ومالكة لكل الوسائل والقوات والطاقات هي لا تستفيد منها ولا تفيد غيرها وذلك لسبب وجود القواد غير القابلين للقيادة. وكذلك يشير إلى أن الأمة ليس أمامها أي هدف يهدف إليه، وليس لها منزل أو نصب الأعين تسير إليه. وجميع وسائلها وإمكانيات تذهب سدى، وتصرف في غير المكان المناسب. ومثالها مثال سهم رمي من قوس غير مشدود الشد الكافي للرمي فلذلك لا يصل السهم إلى مرماه بل يرتمي في الطريق. فالأمة المسلمة تعاني -للأسف الشديد- المشاكل مثل هذه وتضيع كل سعيها لعدم الاتحاد بين أفرادها وجماعاتها. طلب مولانا وصي مظهر الندوي من الحاضرين أن يأخذوا هذا الشعر زادا لهم في سفر حياتهم ويشدوا مئزرهم، فإذا فعلوا ذلك نالوا الهدف الحقيقي من هذا الاجتماع وأنجزوا الغرض المنشود منه، فبذلك يجد جهد مسئولي هذا الاجتماع على المرمى. ومع خطاب مولانا الندوي انتهت الشوط الثاني للاحتفال والشوط الثالث كان العشاء والذي كان مسئوله السيد أيوب قريشي العضو المؤسس لأكادمية إقبال باكستان ومخرج "صداء باكستان" فكان على رأس هذه المهمة من الظهر لكي يقوم بها أحسن القيام وكان في الصالة طول الوقت وكان معه في هذه المهمة للمساعدة الحاج آفتاب ملك فشكر الحاضرين على حسن اهتمامهما على الطعام اللذيذ الفاخر، ومدحوهما. وبعد العشاء اجتمع الحاضرون للتمتع من سماع غناء الشعر "قوالي" وانتهى بذلك الدور الأخير النهائي. قدم السيد اشفاق حسين الأديب المعروف في تورنتو وعضو أكادمية إقبال بكيندا، تعريفا شاملا لفن القوالي قبل بداية هذا الدور، وأوضح أنه كيف بدأ هذا الفن، وأخبرنا عن أهيمته في الثقافة الاسلامية في الهند، وقام يعرِّفنا عن الفنانين مع بيان الاتصال قوالي مع شعر إقبال (رح). وغنى السيد شاهد على خان وأصحابه؛ نديم شاه ومبشر جعفري وغيرهم نخبة من شعر إقبال ومنظوماته إلى حوالي منتصف الليل. وألفت أنظار الحاضري السيد شاهد إقبال إلى أنه ربما أول مجلس غني فيه كلام إقبال ولم يغنى فيه غير شعره، وإنه من حسن حظهم أن تشرفوا بهذا الشرف. وانهى هذا الاحتفال بالشكر للمحاضرين والمجتمعين وجميع الادارت والهيئات والأفراد الذين تعاونوا في انعقاد هذا الاحتفال من قبل السيد سجاد حيدر رئيس أكادمية إقبال بكيندا. وشكر السيد سجاد خاصة لأرشد عثماني ممثل "التلفزيون الباكستاني"، وكذلك السيد بشير خان ممثل "منظر التلفزيون الباكستاني"، وممثل "صوت باكستان" السيد عادل تيموري، ومضيفة "اذاعة كاروان" السيدة عشرت نسيم، مضيف "نور اسلام" السيد أظهر طيبي وأظهر بهتي، السيد صبيح الدين منصور ناشر "باكيزة" الاسبوعية، والسيد أعظم كوندل مدير "أردو تائمز" وناشر "باكستان بوست" السيد آفاق خيالي، وناشر "آواز" نصف شهرية السيد حميد الدين، وناشر "ترجمان القرآن" السيد سعادت علي خان، ناشر "أخبار آسيا" السيد لطافت صديقي، الذين لهم ولوسيلتهم الإعلامية دور في نشر أريج اسم إقبال ورسالته فيتعطر به القلوب والأذهان. وقام بالستجيل الفيديوي المسجل المعروف في تورانتو السيد صابر كابا، وقام بالتصوير المصور المتقن المعروف السيد أحمد حسين. للراغبين على حصول أشرطة فديو الاتصال بالسيد سجاد حيدر رئيس أكادمية إقبال بكيندا على رقم 416- 467-1517 أو السيد صابر كابا المسئول بكابا فيديو على رقم 905-275- 0911. (إعداد تقرير: سجاد حيدر) مجلس ذكرى إقبال في ديره غازي خان يهتم مجلس إقبال بديره غاري خان منذ تأسيسها بالقيام باحتفالات سنوية لنشر رسالة إقبال (رح). وكان احتفال هذه السنة في 16 نوفمبر 2002م في قاعة إقبال الكائنة في كلية تدريب معلمي التغذية بجامعة التربية بديرة غازي خان. شهد هذا الاحتفال جم غفير من الطلاب والطالبات والأساتذة وأصحاب الفضيلة من مدينة ديرة غازي خان. وكان رئيس هذا الاحتفال محمد ظفر ياب القريشي رئيس الكلية. وكان الضيف السيد آخوند ساجد مجيد المحامي المعروف وكذلك الضيفة السيدة شاهدة القريشي المحامية المعروفة. وكان يدير الاحتفال السيد غلام قاسم مجاهد بلوتش رئيس مجلس إقبال بديرة غازي خان. بدئ الحفل بتلاوة آيات من القرآن الكريم قرأتها القارئة حسنية الزهرة الطالبة في برنامج بيكالوريس التربية. وغنت السيدة جميلة بيكم منظومة في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم- وغنى كل ماني وحاني كل قيصراني منظومة "إن كلمة لا إله إلا الله سر خفي لأسرار الذات". ثم جاء دور الطلبة وقام عزيز أحمد كلياني بلوتش طالب بيكالوريس التربية يخطب في "تصور التوحيد عند علامة إقبال". وقال أثناء خطبته: إن إقبال لا يرى "أكبر" إلا الله سبحانه وتعالى. وما دامت الأمة المسلمة تعتقد ذلك كانت مسيطرة على العالم. وما إن وهن اعتقاد المسلمين في ذلك أصبحوا مغلوبين. ثم قامت شاهد بلوتش طالبة بيكالوريس التربية وأبدت عن شعورها بموضوع "فلسفة أسرار الذات (خودي) عند إقبال" هي في نفسها أن الذات هو مركز فكرة إقبال وهي معرفة الانسان نفسه ومعرفته ربه. فمعرفة النفس ومعرفة الرب يلزم بعضهما ببعض. ويسمى هذا السعي بمعرفة الذات (خودي). وهذا السعي يأخذ الانسان من حالة الجبر إلى حالة الاختيار، وإنه جهد متواصل. ومعرفة الذات هذه يجعله في مستوى ملك يحكم، وبها يكتمل الانسان. وقال وسيم حسن راجا طالب بيكالوريس التربية إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى عند علامة إقبال. وما أجمل ما نظم إقبال في بيت لشعره قول الله سبحانه وتعالى في وصف المؤمن "أشداء على الكفار رحماء بينهم" (48: 29) فيقول إقبال: المؤمن كالحرير في مجلس إخوانه المؤمنين وكالفولاذ في المعركة بين الحق والباطل وسمى كمال الإيمان اتباع الرسول بحقه. ثم قامت طالبة عظمى رشيد طالبة بيكالوريس التربية وألقت الضوء على "فلسفة التعلم عند إقبال" وقالت أنه يحث الشاب المسلم على دراسة التعاليم الاسلامية ومعها على دراسة التعاليم العصرية والعلمية. وبعدها جاءت طاهرة ياسمين طالبة بيكالوريس التربية وقرأت نخبة من شعر إقبال. وقالت فرخندة بيبي لقد أوضح إقبال في خطبته سنة 1930 عن وجود قومين مختلفين في القارة الهندية وأشار المسلمين إلى أن يخطو خطوة عملية للحصول على دولة مستقلة حرة مختارة لمسلمي الهند. وغنت كل حاني وحاني كل قيصراني نغمة إقبال المسماة "استقبال الروح الأرضي لآدم عند هبوطه من الجنة". وفي هذه النغمة يعطي إقبال آبناء آدم عليه السلام درسا للقيام في معركة التحديات السماوية والأرضية، عكس أسلوب ملتن في "الفردوس المفقود"(Paradise Lost). وخطب منير أحمد بزدار خطبة على "فكرة إقبال في النظام المعيشي" مشيرا إلى الفلسفة الاشتراكية لكارل ماركس ونظام الرأسمالية والملكية في الإسلام. وقال أثناء خطبته إنه شاعر له مشاعر عاطفية للعامل والمسكين، وقرأ شعر إقبال: قوموا وأيقضوا مساكين دنياي وتحركوا وأبواب قصور الملوك وحيطانها زلزلوا وقال أيضا سنستمر في انعقاد الحفلات الوطنية مثل هذه. وسنقوم بعد هذه الحفلة بحفلة يوم القائد الاعظم، حتى نربي طلابنا على أفكار وطنية بمثل هذه الحفلات. ونشعل سراج بسراج فيزداد عدد السرج فيزاد ضياء العلم ونوره. إن إقبال يرشد إلى سعة النظر لأنه يوجد فيه شخصية ذات الجهات المختلفة. يرى القديم والجديد بنظره الفلسفي فلا ييأس منه القارئ. وأعلن منير أحمد أنه يسمي هذه القاعة باسم إقبال، وعلقت لوحة فيها صورة إقبال، وفي هذا الاحتفال إقيم لأول مرة معرضا للكتب المطبوعة من أكادمية إقبال، وبزم لاهور، ومن عدد الناشرين الأخرين. (إعداد: غلام قاسم مجاهد بلوتش) حفلات سنة إقبال في ولاية بلوتشستان انعقدت عدة حفلات بمناسبة سنة إفبال خلال سنة 2002 في عدة مدارس وكليات إقليم بلوتشستان. وذلك بالتعاون مع أكادمية إقبال باكستان، لاهور، وأعطت الأكادمية جوائز كتب للمشتركين في تلك الحفلات والتي وزعت بين الفائزين مع الشكر لمدير الأكادمية محمد سهيل عمر. وسوف تفيد هذه الكتب في ازدياد المعرفة عن إقبال ونشر الثقافة الباكستانية. وفي هذه الحفلات نالت كتب الدكتور انعام الحق كوثر بإقبال العامة والتي كتبها لنشر فكر إقبال بأسامي "نشر إقباليات في بلوتشستان" و"كتيب جيبي للأطفال" وإقبال والقائد الأعظم وباكستان". والمدارس والكيات التي أقامت هذه الحفلات هي كالتالي: • وكانت الحفلة في 19 اكتوبر 2002 بمدرسة باك الثانوية الحكومية للبات بمدينة كوئته • وكان أخر يوم لأسبوع إقبال 31 اكتوبر 2002 في الكلية الحكومية للبنات في سيتلائيت تاؤن بمدينة كوئته • وكان أخر يوم للاحتفال 2 نوفمبر 2002 لأسبوع إقبال في الكلية الحكومية للبنات في جناح تاؤن بمدينة كوئته وتفصيل هذه الاحتفالات كالتالي: احتفال سنة إقبال في مدرسة باك الثانوية الحكومية للبنات بمدينة كوئتة برئاسة الدكتور انعام الحق كوثر خبير إقباليات المعروف بإقليم بلوتشستان انعقد احتفال في مدرسة باك الثانوية الحكومية للبنات بمدينة كوئتة. وكان في برامه برنامج المساجلة في شعر إقبال اشتركت فيها الطالبات، وكذلك قدمن تمثيلا داميا على منظومات لإقبال. وكانت الضيفة السيدة شفق كل، وكان من أعضاء الاحتفال حرا اسد فاطمة و أسماء خالد، وطاهرة أرشد، وعافية، وشمائلة حسين وحبيبة. وفي النهاية وزعت الجوائز من قبل أكادمية إقبال باكستان. أسبوع إقبال في الكلية الحكومية للبنات في سيتلائيت تاؤن بمدينة كوئته إقيم ضمن احتفالات سنة إقبال أسبوع لإقبال في الكلية الحكومية للبنات في سيتلائيت تاؤن بمدينة كوئته. وكان ضيف الاحتفال الدكتور انعام الحق كوثر، وكانت المضيفة أفشان سليم. بدئ الاحتفال بتلاوة آيات من الذكر الحكيم تشرفت بتلاوتها الطالبة عارفة. ثم قامت سحرش شودري وغنت أبيات في مدح الرسول –صلى الله عليه وسلم. وشهدت هذا الاحتفال مسرت نجمي مديرة كلية سردار حسين موسى للثانوية العامة للبنات، وكشور رضا مدير كلية بروري رود للبنات. وقال ضيف الاحتفال الدكتور إنعام الحق كوثر أثناء خطبته: إنني سررت بالحضور في الكلية وبما قدمته الطالبات. وقال: أرسلت أكادمية السيرة وأكادمية إقبال باكستان للفائزين الجوائز، وهذا احتفال ثالث الذي وزعت فيه الجوائز من قبل أكادمية إقبال. وإن للجائزة قدر ومكانة، وهذه الجائزة إن كانت كتابا فتكون معنا دوما ولا تضيع تستفيد منه لفترة طويلة، ونفيد غيرنا به. وكذلك أكد قول المديرة: بأنني أوافق قولها إن إقبال لا ينبغى أن يذكر في احتفالات او في أسبوعه او في سنته بل يجب أن يذكر دوما وفي كل مجلس فردا وجمعا. ونصح أن يبلغ رسالة إقبال في العالم أجمع حتى يعرفوا ما نصحهم ووعظهم لمصلحتهم. وألقت كوثر ياسمين آغا مديرة الكلية محاضرة قبل خطاب الضيف وقالت إن إقبال هو خالق فكرة باكستان وإمام الصحوة للروح القومي. وعملنا له وعنه في سنة واحد ليس كافيا ومن واجبنا نشر تعاليم شخصيته العلمية، والأدبية، والقومية، والعالمية. وذلك من واجب الهيئات التدريسية وهيئات أخرى. وشخصية شاعر المشرق عظيمة فخمة ذات الجهات الكثيرة، وصوته ذو أثر ولكن ينبغي لمن يفهم شعره وكتاباته أن يرفع مستوى علمه وفهمه. وكان صوته وفكره اللذان تأثر منهما كل من سمع وعرف، وتنبه له فنشأ فيه حرارة الإيمان والعاطفية للوطن. نرجو أن يوفقنا الله لفهمه. ثم مدحت كوثر ياسمين خدمات الدكتور إنعام الحق كوثر، وشكرت لها وقالت إن من حسن حظنا أن تشرفنا بقدومه في كليتنا. وقالت آنسة مسرت نجمي: إن هذه سلسلة نشر إفكار إقبال سلسلة مفيد، وأتمنى أن تطور الكلية يوما فيوما. وكان من ضمن ما قدم في البرنامج، الخطابات، وتمثيلات درامية على منظومات إقبال، وغناء كلام إقبال. وألقت أستاذة الكلية كوثر بت الضوء على حياة علامة إقبال (رح) وعبرت عن رأيها في شعر إقبال ونثره. وأوضحت سحرش شودري مشيرة إلى إقبال أنه كان ضوء أمل للاستقال في الأمة المسلمة. وعرضت نازية بانية نخبة شعر من باقة نغمة "استغاثة إقبال". وألقت فاطمة كاكر قولا جميلا باللغة الإنجليزية وقالت فيه، إن إقبال لم يكن شاعر وفلسفيا فحسب فإنه كان وليا متقربا لله سبحانه وتعالى، وإنه أدى دور شاعر وفيلسوف وزعيم سياسي أداء تاما. وكان مفكرا عمليا في الميول والأفكار والخدمات السياسية، فهو سراج منير لنا في هذه الميادين. وغنت عدد من الطالبات شعر إقبال بأساليب جميلة رائعة. وقدم بعض الطائفات من الطالبات تمثلات درامية على منظومات إقبال؛ مثل منظومة "اليراعة، دعا وحلم الوالدة" وكان الدور النهائي مسابقة خطابية على إقبال ومسابقة أسئلة وأجوبة. ثم وزعت الجوائز على الفائزين، وبها انتهت هذا الاحتفال المحتشم. كان المسابقة الخطابية على موضوع "إقبال والسياسة" وكانت الفائزة بالدرجة الأولى فاطمة كاكر، بالثانية نازية بانية والثالثة زرين شوكت. وفي مسابقة الأسئلة والأجوبة كانت بالدرجة الأولى فاطمة كاكر، والثانية غزل يوسف، والثالثة نازية بانية. وفي التمثيل الدامي على منظومات كانت الطائفة الفائزة بالدرجة الأولى والثانية طائفة السنة الأولى وطائفة السنة الثانية كانت بالدرجة الثالثة. ونالت الجوائز كل من زاهدة بلوتش، ونوشين كنول، وثنا علي، ورومانه عالم، وسبين رفيق، وغزالة أنور، ورابعة شبير، وعاصمة أعوان، وشكيلة فردوس، وسعدية اشتياق، ومريم بشير محمد الطالبات في السنة الأولى. نالت الجوائز من طالبات السنة الثانية كل من محمودة، ومارية، وسارة خلجي، وبري كل، وآمنة، ومهوش، ونوشين، وصائمة موسى، وزر افشان، وعترت. وكذلك نالت الجوائز سائرة عباس، ومريم بشير أحمد، وريحانة شريف، حميرا عبد الرزاق، وفائزة نذير وأنيتا كماري من طالبات السنة الأولى. ومن طالبات السنة الثانية كل من عارفة بيبي، عائشة أرشد، عمارة أشرف ونيلوفر. ونالت عائشة جائزة قارية القرآن، سحرش شودري جائزة غناء مدح الرسول، ونازية بانية جائزة سكرتير المسرح الممتاز، وسحرش شودري جائزة الخطابة الممتازة، وعمارة جائزة مغنية ممتازة، وعائشة أرشد جائزة اللاعب الممتاز. ونالت طالبات السنة الأولى جوائز الامتياز ومنهن مريم بشير نالت جائزة قارية القرآن وعاصمة أعوان نالت في مدح الرسول، وأفشان سليم في سكرتارية المسرح، وفاطمة كاكر في مسابقة الخطابة. الاحتفال بعلامة إقبال في الكلية الثانوية العامة الحكومية للبنات بجناح تاؤن في مدينة كوئته إقيم إحتفال يوم إقبال في الكلية الثانوية العامة الحكومية للبنات بجناح تاؤن في مدينة كوئته. وكان الضيف لهذا الاحتفال الدكتور انهام الحق كوثر، بدئ الحفل بتلاوة آي من الذكر الحكيم. وكان الاحتفال منقسم في شوطين؛ الشوط الأول كان عبارة عن غناء شعر إقبال قراءة وتلاوة، وقدم في الشوط الثاني مقالات عن إقبال (رح). وكان من منتظمي الاحتفال حميرا واحد، وكلنار رشيد والسيدة رضوانه، وقال ضيف الاحتفال انعام الحق: إنه من اللازم أن تنشر أفكار إقبال، وعندما يتقدم واحد أول خطوة يجد معه رفقاء مع كل خطوة، وتشتمل القافلة في البداية على فرد او فردين ومع السير ومع الوقت تجد معها عدد الرفقاء يزداد ويزداد، فلا بد لأحد أن يبدأ السير على الطريق جازما ولا يبالي عقابتها. والطالبات التي غنت شعر إقبال قراءة وتلاوة أسماؤهن كالتالي: صائمة نوشين، وفهميدة، وصائمة حسن، وأسماء بشير، وفرحانه نسيم، وطاهرة ياسمين نازش. والطالبة التي غنت شعر إقبال غناء كانت عاصمة ياسمين. واختارت القطعة التالية للغناء: يجب أن توجد لنفسك محلا في بلاد العشق فالعصر جديد فعليك خلق أصباحا وأمسية جديدة وإن رزقك الله قلبا عارفا الفطرة فكن متكلما مع الزهور والورود وكان الشوط الثاني من الاحتفال يشتمل على قراءة المقالات. اول من قدم مقالته كانت السيدة آفتاب مسرور رئيسة كلية الثانوية العامة للبنات، وقالت في مقالها؛ إن الإسلام دين حي غير حياة الناس ومعيشتهم، وكان من المستحيل أن ينال المسلمون التطور إلا عن طريق التعليم. وجاهد علامة إقبال في نشر التعليم والتدريس بين أفراد الأمة المسلمة، وكان جهده وصلة مكملة مستمرة لجهد سر سيد أحمد خان. وقالت إن ديننا يعطى درسا في المحبة والأخلاص، والمواساة والشفقة. ولا يبقى شعب على وجه الأرض بدون الاتحاد بين صفوفها، وأخبرتنا مشيرة إلى إقبال أنه كان يرى للمرأة عظمة لا يرى غيره. وقالت آنسة ذكية نذير تحت عنوان مقالتها "إقبال والشعر": "إن كلا يعرف أهمية شعر إقبال من النواحي الإصلاحية والنواحي الاخلاقية. وكان هو نفسه من أخرج مسلم الهند من نفسية شعب يعيش تحت الاستعمار، وأعطاه معنى الحرية والاستقلال. وربى فيه الاعتماد بالنفس، الإباءة ورغبه في طاعة النبي (ص) ورسالته المنيرة للقلوب مازالت تنير الطريق للناس، وعرض وجها من الفلسفة الجمالية أمام العالم، يتحير من يقرأ كتاباته وشعره من أسلوبه الساذج وكلامه البليغ، ويكاد لا يصدق عينيه بما يراه من كرامة نفسه وأسلوبه المثير للقلوب. وحسبما يقول إقبال بأنه يموت جسد الإنسان ويبقى روحه، ويحيى شعوره وإحساسه. وعبرت السيدة عصمت جمال عن شعورها في إقبال وتصوره للشاهين. وقالت إنه شاعر عالمي. وشعره ليس شعر الحب والغرام وليس شعر الورود والعنادل، ولكنه رسالة، رسالة جاء بها لكي تؤخذ إلى الناس وتُقرأ أمامهم. وعرض عدة من تصوراته لصلاح أحوال مسلمي الهند وبل مسلمي العالم. وعرض التصور المثالي النموذجي للمؤمن الحقيقي، تصور الحياة، وتصور رموز الذات ونفي الذات، وتصور الجبر والقدر وغيرها من التصورات يجب أن يعرفها الشاب المسلم. وقالت أيضا أن العلامة إقبال يرى المثل الحقيقي للشاب المسلم الشاهين، ويرى أن الشاهين له أوصاف يجب أن تكون في الشباب المسلمين. ويحب إقبال أن يرى الشاب المسلم، أبيا، مستغن، صاحب بعد النظر، عالى الهمة. وينصحهم إلى البحث عن الحق، وإلى الجرأة، الجهد المتواصل. وإن اهم المهمات في نظره التحرك والعمل المتواصل. وهو يقول إن شبابنا إن تعلموا صفات الشاهين وتحلوا بها ليكونوا الفائزين الناجحين في حياتهم الدنيوية ويستحيل أن يكونوا فاشلين راسبين. وعبرت السيدة أمينة رسول عن شعورها في فكرة إقبال عن العشق مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقالت إن إقبال كا شاعرا فلسفيا، ومنحه شعره الحياة الأبدية، وكان مع ذلك قائدا عالميا، وكل بيت من شعره يسأهل أن يكتب عنه ومنه كتابا كاملا. (إعداد: شاهين إسماعيل) مؤتمر مجلس إقبال المركزي في 9 نوفمبر 2002 م قام مجلس إقبال المركزي هذه السنة بانعقاد مؤتمرا حسب العادة السنوية ففي هذا المؤتمر ألقى المحاضرين عدة محاضرات على مواضيع التشكيل السياسي والعمراني والمعيشي في ضوء أفكار إقبال ومحمد علي جناح. وكان من ضمن المحاضرين السيد مجيد نظامي والدكتور جاويد إقبال، وقاضي حسين أحمد، وعارف نظامي مدير "نيشن"، ومنيب إقبال، والأستاذ عبد الجبار شاكر. يوم إقبال في جامعة الكلية الحكومية بلاهور إن جامعة الكلية الحكومية بلاهور قامت بمحاضرة على إقبال في مناسبة حفلة يوم إقبال بتاريخ 10 نوفمبر 2002. وكان موضوع المحاضرة "تصور إقبال للإسلام". فكان الدكتور وحيد عشرت محاضر هذا الموضوع فقال فيها: إن إقبال عرض تعبيرا للإسلام بأنه يعطي الإنسان نظاما كاملا للحياة، وكذلك أوضح الأوجه الحركية للإسلام. أسبوع إقبال في مؤسسة فكرة باكستان و وقف أركان حركة باكستان لقد قامت مؤسسة فكرة باكستان و وقف أركان حركة باكستان باسبوع إقبال، فألقى فيها الدكتور جاويد إقبال ابن علامة إقبال محاضرة على فكر إقبال. وكذلك أقيمت عدة مسابقات ومؤتمرات من قبل طلاب المدارس والكليات والجامعة وكان ذلك بتعاون من جهة السيد مجيد نظامي. وقد أبدى الدكتور رفيق أحمد، والدكتور منير الدين تشغتائي وغيره كثير من خبراء إقباليات آراءهم في الفن وفكر إقبال. يوم إقبال في مجمع الأطفال بلاهور لقد عقدت جمعية رفاهية الأطفال حفلة يوم إقبال. وكان باهتمام رئيسها السيد شعيب بخاري، فغنى فيها الأطفال شعر إقبال وكذلك مثلوا منظوماته تمثيلا دراميا. وكان ضيف هذه الحفلة الدكتور وحيد عشرت، وكان من ضمن المحاضرين الضيوف السيدة بشرى رحمن، و السيد راشد (من قطر)، وأمجد إسلام أمجد، ومدير منظمة الرفاهية الاجتماعية. فهم ألقوا محاظرات عبروا فيها عن مشاعرهم عن إقبال وفكره وشعره. وفي نهاية الحفلة وزعت الجوائز بين الأطفال. يروى أن الفرزدق سمع بيت لبيد: وجلا السيول عن الطلول كأنها زبر تجــد متونها أقلامهــا فسجد، فسئل عن السجود فقال: أنا معشر الشعراء نعرف مواضع السجود في الشعر. نشرت من بعد مع ترجمة رسالة المشرق في كراجي 1950. انظر ترجمتها صفحة 7 نفس الأبيات المذكورة في الصفحات الماضية. 1 رئيس قسم لغات الأمم الإسلامية بجامعة عين شمس – القاهرة سابقا. 2 وهو ديوان أسرار خودي. 3 السيد أحمد خان (1817—1898م) أحد دعاة الإصلاح الإسلامي في الهند، ومؤسس جامعة علي كره. 4 البوصيري: هو محمد بن سعيد بن حماد الدّلاصي المصري 608—695هـ. 5 حين أصاب البوصيري مرض الفالج (الشلل) نهض في نظم قصيدة يمدح فيها النبي ويستشفع بها إلى ربه لإزالة كربه، وأخذ يدعو ويضرع حتى نام، فرأى في منامه النبي —صلى الله عليه وسلم— وهو يمسح بيده على ما به من وجع، ثم ألقى عليه بردته، فانتبه وقد عوفي مما ألم به. 6 من ديوان نظمه محمد إقبال بالفارسية ونشره في سنة 1936م، بعنوان "بس جه بايد كرد أي أقوام شرق " أي: وما العمل يا أمم الشرق؟ انظر كتاب إيوان إقبال للشيخ الصاوي شعلان. ص 88—92، طبع مصر 1977م. 7 من ديوانه " أرمغان حجاز " أي "هدية الحجاز". 8 من ديوانه "جاويد نامه" أي رسالة الخلود كاتب هذا المقال، طبع مصر 1974، ص. 33. 9 من ديوانه " بال جبريل " أي جناح جبريل، وهو باللغة الأردية، وقد نقل هذه الأبيات إلى العربية العلامة أبو الحسن الندوي، انظر كتابه :روائع إقبال، ص 25، طبع دمشق 1960م. 10 من ديوانه "بس جه بايد كرد" وترجمة هذه الأبيات للأستاذ الصاوي شعلان. 11 هو الأستاذ أحمد حسن الزيات، في كلمة ألقاها بجامعة القاهرة، سنة 1956م. أستاذ الفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة سابقا. 1 فاز هذا البحث بجائزة وزارة التربية والتعليم في مسابقة عام 1957 (قسم التراجم والسير) 1 هو"حافظ شيرازي" من كبار شعراء الفارسية. 2 هو الخواجا حسن نظامي الدهلوي المتصوف الكبير والأديب النابغة. 3 هو الشيخ ظفر علي خان أكبر صفحي وأشهر شاعر عرفته مدينة لاهور وكان رئيس التحرير لجريدة (زمين دار) الأردية ومن أخلص أصدقاء إقبال وأنصاره! 4 ديوان الأسرار والرموز: ص 36 (في حقيقة الشعر وإصلاح الآداب الإسلامية) 5 الشيرازي من كبار الشعراء الفرس. 6 شاعر الأردية المعروف وأستاذ إقبال في شعره. 7 من ملوك الطوائف وهم أسرة بربرية في بطليوس (الأندلس) (1027—1094) ومؤسسها عبد الله الملقب بالمنصور (ت 1045) تميز حكمه بالحروب وبهزيمته أمام ابن عباد أمير إشبيلية. 8 بدائع إقبال في شعره الأردي: ص 172 (الديوان بانك درا الأردي: ص 264) 9 المراد من الأسدية: أسد الله حمزه. ومرحب: مصارع كافر قتله علي ابن أبي طالب (رض) في وقعة خيبر. 10 الرقم 9 نزهة الفلك ص 125. 11 وراجع تلميحات إقبال. 12 أسرار إثبات الذات ص 97 (الركن الثاني، الرسالة) 13 المراد بعود السليمي: قوة العرب في الأدب والغناء 14 رموز نفي الذات ص 151 (شكوى المصنف إلى من أرسل رحمة للعالمين) 15 رموز نفي الذات ص 103 (في بيان أن الأمة الإسلامية مؤسسة على التوحيد فلا تحدها الأمكنة) 16 ديوان زبور العجم الفارسي: الغزل 22 ص 22 17 هو الدكتور عبد الرحمن تشتغتائي الرسام العظيم والفنان المعروف قد رسم بعض الأبيات الشعرية لإقبال ونال به إعجابا شعبيا واسعا! 18 Wisdom of the East Series 19 أعظم شعراء إيطالية ومن رجالات الأدب العالمي، خلد اسمه بملحمته الشعرية "الكوميديا الالهية" وصنف فيها طبقات الجحيم والمطهر والفردوس في سفرة وهمية قام بها بقيادة فرجيلويوس وحبيبته بياتريس. 20 واسم الكتاب أبو العلاء وما إليه، وألفه الأستاذ الميمني وهو محاضر بالكلية الشرقية لجامعة بنجاب بلاهور وطبع في القاهرة 1923م. 21 من أشهر مؤلغات الشيخ العلامة شبلي النعماني في نقد الشعر الفارسي. 22 هو فخر الدين العراقي المتوفى عام 688 هجرية، من شعراء التصوف في إيران. وشعره رقيق أنيق يموج بالعشق الإلهي. وقد رحل إلى الهند وأصبح من شيوخ الطريقة القلندرية التي تلزم اتباعها بالسياحة فساح في البلاد طولا وعرضا. ولما زار مصر وجد السبيل إلى سلطانها الذي أكرمه حق إكرامه وأمر بتنصيبه شيخا لشيوخ مصر. 23 الجامي هو الشاعر الفارسي، عبد الرحمن الجامي المتوفى عام 898 هجرية، ويعد من أعظم شعراء الفرس وآخر فطاحلهم من القدماء. والنـزعة الصوفية غالبة على شعره، وقد نظم قصة ليلى ومجنون وطوعها لمعاني التصوف ورموزه، كما أن له عدة منظومات قصصية ضمتها شروحا لأحكامه في رمزية وروحانية دقيقة. 24 الحادي: من يغني للإبل 25 هدية الحجاز: في حضرة الرسالة ص 49 26 بدائع إقبال في شعره الأردي: ص 188 (الديوان بانك درا الأردي: ص 297) 27 بدائع إقبال في شعره الأردي: ص 186 (الديوان بانك درا الأردي: ص 295) 28 بخسه حقه: نقصه إياه. يقول: إنه لم يقل شعرا في الغزل، فما تغزل في الشفاه ولا شبهها بالياقوت. 29 الدن: جرة الخمر 30 الصهباء: الخمر 31 هدية الحجاز: ص 104 أنظر: — ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم الدينوري، عيون الأخبار، دار الكتب المصرية، القاهرة 1343 هـ 1925 م 274 عبد القادر البغدادي، خزانه الأدب، دار الثقافة، بيروت، س ن 498,3 — أشارت دكتورة ريحانة خاتون (دانش كاه دلهي) في مقالتها باسم "العادة البستانية المذكورة في ديوان حافظ"(المطبوعة كاوش، مجلة البحث والأدب، شعبة اللغة والأدب الفارسي، الكلية الحكومية بلاهور، رقم 20 سنة 1992م ص 34— 42 ) أن عادة إهراق الخمر على الأرض التي وصلت إلى الفارسية من العربية ربما كانت من العادة القديمة المعروفة باسم Libation — وربما تصح وجهة نظر الدكتورة وعادة جذيمة كانت اتباعا لتلك العادة ولكن العادة Libation أصلا كانت دينية وكان الهدف منها إرضاء الأوثان، وأما عمل جذيمة الأبرش هذا فذلك يرجع إلى التكبر والاغترار، ولإظهارهما. والعادة الأدبية التي نتكلم عنها كانت امتداد نفس التسلسل؛ وكان الإهراق دليلا على عظمة عطاء المهرق والذي يهراق عليه الخمر يعتبر عليه المن والإحسان. ويمكن أن نصل إلى نفس النتيجة بعد البحث أن عادة جذيمة كانت من نفس Libation وكان الفرقدين من الأوثان ولكن العادة الأدبية تكون مرتبطة بنفس التصور المشهور لأن المسلمات الأدبية تتعلق عامة بالتصور المعروف أكثر من الواقع. وكما أوضحت الدكتورة ريحانة خاتون في المقال المذكور أن هذا الشعر ورد في عدة مصادر أدبية مع اختلاف بسيط ولكننا لا نعرف اسم الشاعر. وأقدم المآخذ التي ورد فيه هذا الشعر هو "إحياء علوم الدين" للإمام الغزالي (رح) حيث ورد فيه هذان الشعران: شربنا شرابا طيبا عند طيـــب وكذاك شراب الطيبين يطــيب شربنا و أهرقنا على الأرض فضله وللأرض من كأس الكرام نصـيب ويوجد هذا المضمون في بعض أشعار الشعراء الآخرين الفارسيين. أنظر: كاوش، المقالة المذكورة وكذلك لغت نامه دهخدا بذيل "جرعه" غزلهاي حافظ سازمان كتابهاي جيبي، تهران، 1341، ص 251 كليات غالب (الفارسي) مطبع نولكشور، لكهنؤ، الطبعة الثانية 1310 هـ 1892م ص 231 كليات إقبال 0(أردو) مطبوعة شيخ غلام علي ايند سنز، لاهور فروري 1973 ص 324 أيضا، ص 386 )بدائع إقبال ص 250 شعر 14( ديوان الأسرار ص 36 )كليات إقبال فارسي مطبوعة شيخ غلام علي ايند سنز، لاهور مايو 1985 ص 38( بدائع إقبال ص 350، الشاعر، شعر2 (كليات إقبال أردو ص 589( بدائع إقبال ص 122 شعر 93 )أيضا ص 170( بدائع إقبال ص 186 غزل رقم 3، شعر 9 (أيضا ص 279) أنظر "أبو الحسن الندوي، روائع إقبال، مجلس نشريات إسلام، كراتشي: 1403هـ، 1983 ص:231 ديوان الحماسة، (مع الشرح لمولانا محمد إعزاز علي أمروهوي) المكتبة السلفية، لاهور، دون تاريخ ص 13 وقد ألف حسين أحمد براجه هذا الحوار وجعل منه مقالا باسم "تأثير الأدب العربي على إقبال" ثم قرأه في إحدى حفلات الكلية عن يوم إقبال. ثم طبع هذا المقال في مجلة الكلية "ضياء بار" وبعد ذلك طبع في مجلة "نويد الصبح" في شهر يونيو 1967م، ثم طبع مرة ثانية في نفس المجلة الصادرة باسم إقبال نمبر في شأن الحفلات المئوية الخاصة بولادة إقبال سنة 1977م. ثم طبع "مجلس إقبال" بلاهور عدة منتخبات من نفس المجلة، وهذا المقال من ضمن هذه المنتخبات. (انظر: زاهد منير عامر (المدون) "معرفة إقبال وبشرى الصبح" باللغة الأردية (راجعه الدكتور رفيع الدين الهاشمي) مجلس إقبال بلاهور، يناير 1990م ص 175— 184) وللمعرفة على المواد بنفس الموضوع انظر: — محمد إبراهيم دار، مضامين دار، دار ببليكيشن كميتي بومباي، دون تاريخ ص 249—266، "إقبال وشعراء العرب" بالأردية. — بروفيسور محمد منور، "ميزان إقبال" يونيورستي بك ايجنسي، لاهور، 1972 ص 23 "تأثير الأدب العربي على كلام إقبال" باللغة الأردية. — محمد أبو ذر خليل، أثر الأدب العربي في شعر إقبال الشاعر، مقال البحث للماجستير 1991م شعبة العربية، جامعة بهاء الدين زكريا، بملتان. انظر ديوان الحماسة ص 22 انظر: ابن منظور، لسان العرب، في ذيل" ————" " والنجم الثريا وهو اسم لها علم مثل زيد وعمرو وان أخرجت منه الألف واللام تنكر... النجم في الأصل: اسم لكل واحد من كواكب السماء وهو بالثريا أخص، فإذا أطلق فإنما يراد به هي... أنه في الأرض ولكن عالم في السماء لارتفاع فيها، والثريا: مجموعة من النجوم في صورة الثور. كليات إقبال أردو ص 22 (بدائع إقبال ص 19) القرآن المجيد 2: 177،215، 4: 34، 8: 41، 9: 60، 17: 26، 59: 7. أيضا، 3: 7، 13: 39، 43: 4 كليات إقبال (أردو) ص 230 أيضا، 6: 92، 42: 7 ديوان عمر بن ربيعة، (مع شرح محمد العناني) مطبعة الصعادة، مصر، 1320، ص 184. بدائع إقبال ص 158 ذكرى الأم، شعر 32 القرآن الكريم 83: 23—25. بدائع إقبال ص 251 جامع قرطبة، شعر 32 (كليات إقبال (أردو) ص 389( بدائع ص 138 مستشفى الحجاز، شعر 7 (أيضا: ص 198) رموز نفي الذات، ص 153 انظر الدراسات الإسلامية (المجلة العربية لإدارة البحوث الإسلامية، بإسلام آباد)، المجلد 12، العدد 3،4،5 وإقبال نمبر 1397هـ /1977م، ص 131—132. دكتور رفيع الدين هاشمي، إقباليات جائزه، كلوب ببلشر، لاهور، 1990 ص 133 كليات إقبال (فارسي) ص 169—170 أقيم هذا الاجتماع في مكتب شبان المسلمين في السادسة مساء بتاريخ 4 ديسمبر. ألقى إقبال فيه خطبته بالإنكليزية. انظر: محمد حمزة فاروقي، سفر نامه إقبال، مكتبة معيار، كراتشي، 1973م ص 149—150 عبد الوهاب عزام، رسالة المشرق، إقبال أكاديمي باكستان، لاهور، الطبع الثاني، 1981، مقدمة المترجم ص 3—4 كليات إقبال (فارسي) ص 314—315 طبع هذا الكتاب من أكاديمية إقبال باكستان، لاهور، سنة 1954،1960، 1985 على صورة الطبع المصري. مولانا أبو الحسن علي الندوي، روائع إقبال، ص 12 عزام، رسالة المشرق، مقدمة المترجم، ص 6—7 كليات إقبال فارسي، ص 5 الدكتور عبد الوهاب عزام، ديوان الأسرار والرموز، دار المعارف، مصر 1955، ص 5 قارن بين: كليات إقبال (فارسي) ص 284 وعزام رسالة المشرق، ص 51 "بين الله وبين الإنسان" مولانا ندوي، روائع إقبال، ص 15 كليات إقبال (أردو) ص 199 محمد حسن الأعظمي، الصاوي علي شعلان، فلسفة إقبال والثقافة الإسلامية في الهند والباكستان، مصر 1369هـ 1950م ص 101— وكان أصلا "كلام الروح" بدلا من "حديث الروح"، ولكن لا نعرف هل غير المترجم نفسه أم عرف هكذا بأن أم كلثوم غنتها هكذا، وأصبح معروفا بـ"حديث الروح". كليات إقبال (أردو) ص 199 الأعظمي، شعلان، فلسفة إقبال، ص 122 الدكتور محمود أحمد غازي، المدير العام حاليا لإكادمية الدعوة، جامعة الإسلامية بإسلام آباد محمود أحمد غازي، صاوي شعلان، والآن ماذا نصنع يا أمم الشرق (ترجمة مثنوي بس جه بايد كرد باللغة العربية، دار الفكر، دمشق 1408هـ 1988م قصة الكتاب، ص 12—13 انظر الهامش السابق، عمر بهاء الدين الأميري، إقبال والزبيري، سفارة جمهورية باكستان الإسلامية، الرياض جده، 1408هـ ص 12 محمود أحمد غازي/ صاوي شعلان، يا أمم الشرق، ص 17 كليات إقبال (أردو) ص 378 الأميري، إقبال والزبيري، ص 23 (طبعت بعض مصنفات للزبيري باسم "في جو إقبال، شاعر الإسلام". انظر: فهمي قطب نجار، محمد إقبال وصلته الثقافية بالعالم العربي، تأثره تأثيره، رسالة البحث للدكتوراة، شعبة العربية بالجامعة الإسلامية في بهاولبور، للسنة الدراسية 1988م هامش 53 ص 167 كليات إقبال (الفارسي) ص 907 سمير عبد الحميد إبراهيم، إقبال وديوان أرمغان حجاز، المكتبة العلمية، ليك رود، لاهور، 1396هـ/ 1976م ص 186 انظر: عزام، رسالة المشرق، مقدمة المترجم، ص 7—8 لمعرفة بعض المجموعات مثله انظر: فهمي نجار، محمد إقبال وصلته الثقافية" ص 165—167 الدكتور ظهور أحمد أظهر، إقبال العرب على دراسة إقبال، المكتبة العلمية، لاهور 1397هـ/ 1977م انظر لبعض الأمثلة: الدكتور ظهور أحمد أظهر، إقبال في نظر شعراء العرب، المكتبة العلمية، لاهور 1977م طبع كتاب الدكتور إحسان حقي باسم "باكستان ماضيها وحاضرها" سنة 1393هـ/ 1973م من بيروت 1 لقد حظيت الموسميات بوضعها تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك الحسن الثاني، كما تتشرف هذه الدورة بنفس التمييز. كاتب هذا الموجز خبير بشؤون التراث المغربي والإسلامي. سويسرة مهندس معماري، خبير لدى منظمة اليونسكو في المحافظة على التراث. مراكش إشارة من المؤلف للاحتلال الصهيوني للقدس الشريف عام1967 كاتب هذا المقال أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة جورج والشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية أستاذ محاضر في تاريخ العصر الوسيط، مدير مضارك في مجلة"معرفة الأديان" – فرنسا أستاذ بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا بجامعة الصوربون كاتب هذا الملخص رئيس أكاديمية إقبال بباكستان. لاهور مدير الشؤون الثقافية—معهد العالم العربي بباريز والاستثناء الوحيد الذي بقي لنا هو بعض كبار أسماء المهندسين من العصر العثماني: سينان، محمد أغا باني منار الخيرالدة بإشبيلية (أنظر كتاب المن بالإمامة)... ابن الرامي، كتاب الإعلان بأحكام البناء، مخطوطة نشرت بمجلة الفقه المالكي والتراث بالقضاء المغربي، ع 3، 2 و4، الرباط، سبتمبر، 1982 ابن عبدون، م. مخطوطة من القرن 12 عن الحياة الحضرية والهيئات المهنية، ترجمة، ل. بروفنسال. إشبيلية الإسلامية في بداية القرن 12 باريس، 1948 المارودي، أء الأحكام السلطانية، مطبعة المحمدية، القاهرة، س. د، ترجمة، فاغنان، أو، الجزائر، منشورات جوران، 1915 ماسينيون، ل، بحث حول هيئات الحرفيين والتجار المسلمين ف الإسلامي، 1924، ج، 85، ص، 73 فييت، ج، أورده: أ، بابادبولو، الإسلام والفن الإسلامي، باريس، ص، 34 باكارد، أ، المغرب والصناعة التقليدية الإسلامية في الهندسة، جزءان، سان جوريوز، الناشر، لاتلييه84، 1980 كاتب هذا الملخص أستاذ الفنون العريقة بجامعة لاهور. باكستان كاتب هذا المقال أستاذ الدراسات العثمانية بجامعة إستامبول. كلية الإلهيات أنظر »معلومات عرفية في الفاس« الذي قدمه في جامعة القروبين بفاس سنة 1972 Titus Burckhardt, Trans. William Stoddart, S. 181. Cambridge,1987 كاتب هذا الموجز أستاذ فقه اللغة وباحث جامعي بجامعة برشلونة أستاذ العلوم الإسلامية بجامعة إيكسيتير بإنجلترا أستاذ باحث في المعارف الحكمية— بريطانيا مدير برنامج إنقاذ المدن التاريخية— مؤسسة أغا خان الثقافية— سويسرة المعقوفتين للمؤلف تصويب للمترجم نص محاضرة أعدت لمؤتمر يقام في مراكش، أيار/ مايو 1999، للاحتفال بذكري بوركهارت وأعماله في إطار "موسميات مراكش". انظر كتابه The Art of Islam "فن الإسلام"، ترجمه إلى الانكليزية بيتر هوبسن، لندن، "مهرجان عالم الإسلام" 1976. وراجع خصوصا الصفحة الأولى من مقدمة الكاتب، ومقدمتنا للكتاب، ص 15—16. انظر كذلك الفصل الثاني من هذا الكتاب بعنوان "ولادة الفن الإسلامي"، ص80، وكتاب بوركهارت Mirror of the Intellect "مرأة الفكر" الذي ترجمه إلى الإنكليزية وليم ستودارت، ألباني، نيويورك، دار نشر جامعة نيويورك الحكومية، 1987، الفصل الثاني والعشرين بعنوان "القيم الأبدية في الفن الإسلامي"، ص219— 230. يمكن مقارنة الاختلافات في أشكال الفن المقدس المتنوعة إلى حد ما بالاختلافات في الميزات و"العبقرية الروحية" لكل نبي من الأنبياء في الباطنية الإسلامية كما وصفها ابن عربي في "فصوص الحكم" الذي كشف فيه بوركهارت للغرب للمرة الأولى عن تراثه الميتافيزيقي وذلك في ترجمته الطليعية وتعليقه على النص المنشور بالفرنسية بعنوان La sagesse des prophetes "حكمة الأنبياء" باريس، دار نشر ألبان ميشيل،1967. راجع كتابه Sacred Art—East and West "الفن المقدس في الشرق والغرب"، ترجمه لورد نورثبورن، بدفورد، ميدل سكس/ بريطانيا. سلسلة الكتب الخالدة، 1968. راجع مثلا "وجوه الوحدة في كتابه “Introduction to Sufi Doctrine” "مقدمة للعقيدة الصوفية"، ويلنغبورو، نور ثامبتون شاير، ثور ستونز، 1976، من ص 53—57. في هذا المجال وغيره من المجالات الأخرى، يظهر بوضوح تأثير مرشده الروحي وصديقه فريتجوف شووان (الشيخ عيسي) راجع بوركهارت في "مراة الفكر"، ص 13، وكذلك كتابهAlchemy Science of The Cosmos, Science of The Soul "الكيمياء: علم الكون، علم الروح"، ترجمة وليم ستودارت، بالتيمور، بنغوين بوكس، 1972. وكذلك كتابهCles de I’ astrologie musulmane d’apres Mouhyiddin Ibn Arabi "علم الفلك الصوفي، وفقا لابن عربي" ترجمه بلنت رؤوف، شيربورن، بريطانيا، بشارة، 1977. انظر مثلا كتاب فريتهوف شووان L’Esoterisme comme principe et come vie "الباطنية مبدءا وأسلوب حياة"، ترجمه وليم ستودارت، بدفورد، ميدل سكس، سلسلة الكتب الأبدية، 1990، الفصل بعنوان "منزلة الفن" ص 183—197. فيما يتعلق بالمعنى الجوهري للعلوم التراثية، انظر كتاب رنه غنون Symboles fondamentaux de la science sacree "الرموز الأولى – اللغة الكونية للعلم المقدس"، ترجمة الفن مور جونيور، كامبرج، سلسلة كوينتا اسنتشا، 1995. وانظر كذلك كتاب بوركهارت "مرآة الفكر" الجزء الثالث بعنوان: "الرمزية والميثولوجيا" ص 117–170. في هذا الكتاب يشرح بوركهارت المعنى العميق لتراث أمم شتى مثل الأميركيين الأوائل واليونان القدامي. انظر كتابه في "الكيمياء... " الذي يحتوي علي مادة غزيرة تتناول الكيمياء الإسلامية بشكل خاص. لا بد أن نذكر في هذا السياق The Transformation of Nature in Art "تحول الطبيعة في الفن" وهو عنوان كتاب شهير لعلامة آخر شارح للفن التراثي هو أ. ك. كومار اسوامي. "فن الإسلام"، ص 71. المصدر السابق، ص 80. يتعرض بوركهارت لهذا الموضوع أيضا في كتابه Moorish Cutlture in Spain "الثقافة الموريسكية في أسبانيا"، ترجمة أليسا جافا، لندن، جورج ألن وأنوين، 1972، ص211. في نهاية الستينات دعونا بوركهارت للمجيء إلى إيران لانتاج عمل عن إصفهان مماثل لعمله عن فاس. وكان شديد الرغبة في المجيء، غير أن انشغاله البالغ بالحفاظ على تراث فاس حال دون مجيئه من المغرب. أنظر بحث بوركهارت الطليعي "الفراغ في الفن الإسلامي" في كتابه "مرآة الفكر" الفصل الثالث والعشرين، ص231—235. وقد عالجنا هذا الموضوع أيضا في كتابنا Islamic Art and Spirituality "الفن والروحانية الإسلامية"، ألباني، نيويورك، دار نشر جامعة نيويورك الحكومية، غولغونوزا برس، 1987، ص 185—191. إن كل كتاباتنا المتواضعة عن الفن الإسلامي، وليس هذا العمل وحسب، تعكس التأثير الجوهري لبوركهارت الذي كانت تربطنا به شخصيا علاقة روحية وفكرية. إقباليات (العدد الخامس 2004) 2 211 إقبال شاعر فرض نفسه على الدنيا وعلى الزمان محمد إقبال سيرته وفلسفته وشعره إقبال الفيلسوف النبي (ص) في شعر إقبال رسالة محمد إقبال إقبال شاعر الثائر إقبال والشعراء العرب الشعر بين الحكمة والفن إقبال والعربية والعالم العربي إقبال في فلسطين موسميات مراكشية الدلالة الروحية للفن الإسلامي تيتوس بوخاردت— إبراهيم عز الدين أخبار إقباليات